ثقافة وفن

الرقص تحت أنظار الموت.. “بريك دانس” في فلسطين!

المتابع للمشهد الفلسطيني في هذا الوقت الذي اصبح فيه أي شان هامشي تجاه ما يحصل من مشاهد مهولة في المنطقة العربية، ستحدد مصير العالم لعقود قادمة، من يتابع هذا المشهد وعلى مختلف الشاشات الفلسطينية وحتى العربية والعالمية، سيلاحظ توجها يشتغل عليه بطاقة إعلامية عالية ليصبح واقعا، مشهد يمكن اختصاره بالجملة التالية ” الشباب الفلسطيني يرقص البريك دانس”!.
أكثر من 10 تقارير إعلامية على أشهر المحطات العربية والعالمية الناطقة بالعربية، بثت بأوقات متقاربة وهي تحكي عن فرقة من شباب فلسطينيين يرقصون الجاز والبريك دانس في شوارع فلسطين المغتصبة، وتحت مرأى أعدائهم المدججين بالسلاح!.
لم يبقى جوع وقهر وحرمان وفقر وقتل وتدمير وحرق وسلب وتقطيع أوصال وعلى الهواء مباشرة في فلسطين، هذا كله يا أيها العالم، انتهى، حسب هذه الشاشات، وما هو موجود اليوم عوضا عن ذلك في رأي العام العالمي وبعض الرأي العربي للأسف، هو البريك دانس، ومحبوب العرب، و “ذا فويس” هناك في تلك الساحات ترفع راية الكفاح الفلسطينية عبر الأغاني والرقصات، ولم تعد ساحات القتال موجودة إلا عند الكلاسيكيين وأصحاب الأوهام.
إلا أن أكثر ما يؤسف في تلك التقارير التي تم عرضها عن إحدى الفرق الراقصة ل “البريك دانس” في غزة، والتي اقامت إحدى حفلاتها بين أنقاض مدمرة من عدوان صهيوني على أحدى المناطق فيها، هو كلام الشباب نفسهم، رأيهم، وماذا يشعرون الآن واليوم، ففي الوقت الذي كانوا يرقصون فيه ويؤدون حركات الشقلبة والدوران وغيرها من هذه الخزعبلات الغربية، هناك من اخوتهم من بات ليلته في الخنادق وتحت الأنقاض وبين الخرائب، في هذا الوقت تنكر حديثهم لكل هذا الأسى ليجيء، – نزولا عند رغبة القنوات العارضة، التي وعدتهم بالشهرة والسفر والمال بعد أن تجعلهم “فرجة” للناس المتحلقين في السهرة خلف تلفزيوناتهم-، محشوا بعبارات ضعيفة هزيلة عن محاربة العنف بالرقص!، وبأي رقص ؟ البريك دانس! ولو كان الرقص يعيد شبرا، لرجعت كل الحقوق العربية لأصحابها ومنذ سنين طويلة.
المفارقة التي ظهرت في التقرير بخبث شديد، هو وجود ” حنظلة” الرمز الفلسطيني الشهير للفنان الفلسطيني الشهيد “ناجي العلي” مرسوما فوق واحدا من الجدران المهدمة الموجودة في خلفية الكادر، مديرا ظهره للعالم كعادته، وإلى جانبه كتبت عبارة “حق العودة” وهكذا يتم ربط حق العودة المقدس بالرقص والغناء، وتسقط من الوجدان مقولة أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وهذا سيسدد للقضية الفلسطينية التي هي الأساس في كل ما يحدث اليوم في الدول العربية، سيسدد لها ضربة قوية مستقبلا، عندما يصبح وعي الأجيال القادمة مرتبطا بما تصدره شاشات مرتبطة بأجندات لم تعد تخفى على أحد، والخوف كل الخوف، أن تحل روح الرقص، عوضا عن روح قتال الغاصب ورد الحق المنهوب.
في سياق متصل وأيضا بما يخص المشهد الفلسطيني الغائب هذه الفترة عن يوميات العرب – ليس كلهم كما هي الحال دائما- أيضا كرست العديد من الشاشات العالمية تقاريرا مصورة بحرفية عالية، ظهر فيه شاب يغني ومعه أطفال يرقصون تارة ال “بريك دانس” وتارة الجاز، على وقع اغنيته التي تتهادى ألحانها المائعة على صورة للأقصى، بعد أن تكون قد مرت بعدة مشاهد متلاحقة لا رابط بينها وخالية من أي معنى.
المغني يطلب من المحتل أن يغادر “فلسطينه” التي كان له فيها “دور وتين وعنب” بكلمات ماسخة لا حيل فيها وبلا أي روح، يعني لو سمع المحتل كلامه لغشي من الضحك هذا إن لم يقلب على ظهره وبكل أمان، فكلام الاغنية قريب مما يقوله الولد الضعيف وأمه للولد الذي يكيل له اللكمات ” بتشوف، والله لا يسامحك، ويا ويلك من الله” وغيرها، وهذه الروح “الكوول” لا تحتاج لسلاح يردها من قبل العدو الصهيوني.
فرغت الأغاني من التهديد وإلقاء الخوف في نفوس الأعداء، وخلت من حسها بالكرامة المسلوبة ودعوتها لاستنهاض الهمم وإعلاء الرايات، وصارت بلا شكل ولا طعو أو لون كما يقال، الفن الذي هو روح الشعوب، صار مخزولا على هذه الشاشات – وهذا هدفها- ومتبرئا من أصله متنكرا لأهله وناسه، ولم تعد الأغنية الوطنية الفسطينية، هي وجدان الفلسطينين وضميرهم، بل أنها صارت حتى تردد مقولة قاتليهم الذين لا يرضيهم حتى هذا، فهنا يرقص القتيل وليس يرضى القاتلُ – انظروا ماذا يحدث كل يوم في فلسطين المحتلة من بناء مستوطنا وقتل وتدمير-.
أيضا وعن فلسطين دائما وعلى نفس الشاشات، تقرير مشغول بعناية بارعة، من جهة الاخراج والتصوير وحتى أصغر التفاصيل، يحكي عن جندي فلسطيني في يحارب في صفوف العدو ضد أهله واخوته وبني جلدته! التقرير جاء واضحا بما يقول، “محمد” الثلاثيني ابن غزة الكليمة، يريد تحقيق السلام والعيش بهناء، وهذه الأمنية الغالية على قلبه كما على قلب “نتنياهو” لا تتحقق إلا بقتل أخوته!.
“محمد” ظهر وهو يرتدي البزة العسكرية الصهيونية، ويرفع علم الصهاينة، ويذهب في دوريات مشتركة مع جنود صهاينة لصيد “المجرمين الذين لا يحيون السلام” من الفلسطينين!، وهو يتحدث إلى الكاميرا بلا أي شعور بالخجل أو العار، ولم ينسى التقرير أن تترافق عباراته وهو بين الجنود الصهاينة، بصور لابنه المولود حديثا، وهو أي ” محمد” يتمنى له أن يعيش بسلام!، وبالتأكيد المقولة من هذه الصور للطفل الفلسطيني الذي يرمز إلى جيل الغد، هي واضحة ومفهومة، ولا تحتاج لكثير تأويل!.
البعث ميديا || تمّام علي بركات