ثقافة وفن

نحن والثقافة: الانفجار الكبير (1982- 1984) Big Bang

(منظور أُوتوْ فكروْغْرافي)

الدراسة الأكاديمية التي تتناول بالبحث سائر مشكلات العصر الكبرى بالإجمال وكليانياً كمركَّب لقرابة دزينة ونصف أوْ ما يقرب من عشرين مشكلة كبرى تصلح أيٌّ منها لأكبر الاطروحات مع ضرورة التجاوز الاستثنائي للمألوف حتى في هذه الحالة – أقول أنّ دراسة أكاديمية كهذه ومن هذا الصنف لم توجد أبداً من قبْل ولا يمكن أن توجد في ظل كل ما هو متاح إدارياً أكاديمياً وتقليدياً، لكنني فعلتُها بداية الثمانينيّات ووضعتُها موضوعاً لي بصورة غير مسبوقة ولا متبوعة أيضاً فأُقِرَّت مع التعاون والتجاوب الملحوظ في جامعة موسكو الحكومية الرسمية M.S.U وأُسِّس مجلس علمي أكاديمي للدفاع جديد كلياً وتركيبي ليتحمل ويستوعب حالات كهذه في الجامعة في أيار 1982. وما بين أعوام 1981-1985 كنت أدرس وأتابع أهم مشكلات العالم المعاصر الأكثر إلحاحاً وحضوراً وتأثيراً والأكثر خطورة وحيداً بلا تراث سابق يُعتَدّ به، ولاسيما في الفلسفة بأوْسع أطيافها، فكنتُ متابعاً عنيداً لأهم العلوم المجتمعية ككل مع دورياتِها ومجلاتِها بالاشتراك. وبمثابة تمرين أوَّلي وضعتُ كرَّاساً/ كتيِّباً بالعربية مباشرةً نهاية عام 1982 حول كتلة «مشكلات العصر الكبرى» ككل (الكبرى مقابِلٌ إجرائيّ لكلمة الغْلوباليّة–global لكنني عرَّبتُها حالَها بلا أيّ تراث تعريبي سابق مماثل بتسمية الكوكبية) أي أن العنوان أتى في صيغة قريبة من: المشكلات الكوكبية لعصرنا الراهن، والكوكبية أي المتصلة بكوكب الأرض – أهم مشكلات أرضنا أوْ كوكبنا الأكثر إلحاحاً وخطورةً. وفي الحال وبلا تردُّد وضعتُ الثقافة عزيزةً مكرَّمةً ومستقِلّة مكتفية جديرة في التصنيف المنظومي المتْقَن لمشكلات الأرض (الكوكب) ضمن 17 مشكلة كبرى؛ وقد جرى التعريف السريع المسْهب بعض الشيء بها جميعاً في العنوان: «عرض موجز لأهم المشكلات الكوكبية»، وحضرت الثقافة حتى في التعريف الموجَز بـ «مشكلة إعادة بناء العلاقات الدولية على أسس عادلة بما في ذلك إنشاء نظامعالمي جديد وعادل.» فكان التنصيص التالي: «السوق الرأسمالية الدولية تجر البلدان النامية إلى تبعية مِن نوع آخر أيضاً أي تبعيّة ثقافية وروحيّة بتعميم نماذج وقِيَم الحياة الاستهلاكية السلعية وحبّ المظاهر وتشجيع وترجيح كفة الاستهلاك على كفة الإنتاج…» وفي خصوص إيجاز التعريف بـ «مشكلات التعليم والثقافة والتفجُّر “الإعلامي/المعلومي”» ثَمَّةَ في خصوص الثقافة ما يلي: «إن تطوير الثقافة الروحية والمادية للناس والمجتمع ككل وتحسين وعيهم لمجرى الأمور والتزاماتهم بالسعي لحل المشكلات الملِحّة في عصرنا وفهم جوهرها ومساراتِها، وكذلك تطوير الأسس التربوية والأخلاقية للشخصية والمجتمع والعادات والتقاليد ومقدرات الشخص وطرق ووسائل تفكيره وأنماط سلوكه – هذه كلّها غدت أموراً ضرورية يفرض عصرُنا الاهتمام بها، لاسيما وأنَّ حجم المعارف البشرية يتزايد باستمرار، فهو يتضاعف «حالياً» كل عشر سنوات تقريباً وفي مجال العلوم كلَّ خمس سنوات، ولا يمكن استيعاب وتوظيف هذا التراكُم المعرفي المتسارع إلا بتطوير كثير من العادات والأساليب والحنكات الشخصية والاجتماعية وبتنشئة الأجيال الجديدة وإعدادها بطرق ووسائل جديدة.».

وقد انتشر محتوى الكراس/ الكتيب تباعاً في الدوريات السورية المحلّية والمجلات العربية على مدى الثمانينيات، ثم جاء مجموعاً ضمن كتابِنا الصادر لاحقاً بعنوان «العرب وعولميات العصر الراهن»، دمشق، 2003 وهو ليس أنيقاً ومعروفاً كفايةً هنا، غير أنه شارك في معرض فرانكْفورت العالمي للكتاب واقتنته –ولازالتْ – مكتبات جامعاتٍ عالمية عديدة، ومنها في أميريكا وكندا، ومتاحٌ شبكياً على مكتبة الأمازون الرقمية، وفي بعض الجهات العربية… وبعض مكتبات مراكزنا الثقافية والمكتبة المركزية الوطنية عندنا.

أمَّا الرسالة التي عالجتْ 17 مشكلة كبرى (غْلوبالية/كوكبية) لعصرنا، قد تصل إلى  20 مع منْهجيّاتِها ولوجستيَّاتِها الخاصة شديدة التميُّز، فقد كَرَّمت الثقافة بصورةٍ إضافية لتجعلها أحد فصولِها الستَّة الكبرى (كحجم) أمَّا كمضمون فقد تلافتْ أكثر «النقائص» في تراثِها السابق بصورةٍ شاملة متداخلة: تفاعلات الثقافة مع التِقانة والتقدم العلمي – التقني في أحدث قفزاتِه النوعية الجديدة؛ حضور المنظوميّات في كل مكان؛ موقع الثقافة المتميز في المشكلات الكبرى للعصر؛ مكان الثقافة في النظام الدولي/العالمي الجديد الإجمالي وإرساء وابتكار ما لم يفعلْه أحدٌ قبل ذلك أيضاً بوضوح وبحسم: ضرورات إنشاء نظام ثقافي دولي/ عالمي جديد؛ العولمة الثقافيَّة (كلاً وتفصيلاً وتفريعاً)، وصحيح أن مصطلح العولمة لم يوجد بعد لكنَّه في هذه الرسالة/ الأطروحة صار موجوداً أي جرى نحته وابتكارُه واستخدامُه الواسع في أرجاء الرسالة رؤيْويّاً باللغة الأجنبية ذاتِها – الروسية – «غْلوباليزاتْصيا» – гᴧobαᴧuȝαӌuя=globalizatsia وفي أكثف استخدام له في فصل الثقافة بخاصة  (ثلاث مرات في الصفحة الأولى وَحدها من الفصل)، وللتوثيق والاستفادة أُشير هنا إلى ترجمتي الذاتية للفصل بعد أواسط الثمانينيات وظهوره منشوراً مع عولمياته الثقافية وغير الثقافية عام 1992 في العدد 70 من مجلة الفكر العربي الفصلية في بيروت، في وقت كانت العولمة حتى عالمياً لا تزال تحبو آنها.

وفي هذا الفصل المنشور عربياً تجد منذ الصفحات الأولى التنبيه إلى الأبعاد الثقافية والروحية من تطور وتنمية البلدان النامية وانعكاس «التوجُّهات إلى العالمية»(أي العولمة)(م.ن) على دائرة وعْي المجتمع، وأن الحياة والقيم الثقافية تكتسب «مزيداً من السِمات العالمية» أيضاً (أي تتعولم –م.ن)، وكذلك الحاجات والمعايير والمنْجَزات ونتائج النشاطات الثقافية الروحية، إضافةً إلى كل ما يتصل بنقل وتوزيع واستهلاك الخيرات والمنْجزات الروحية – الثقافية، ومالذلك كله من وسائل وطرُق وطرائق وقنوات…؛ ومنذ الصفحة الأولى تجد أيضاً الآتي: «مِنَ المهمّ هنا مناقشة مسائل كالتنمية وإقصاء التخلف والتبعية، ومواجهة الروح العدوانية والنزعة الاستعمارية الجديدة – مناقشة ذلك كله عبر موشور ثقافي وروحي – يجب الاهتمام أكثر بالحوار أو التعاوُن بين المنظومات الثقافية المختلفة… والسَعي بالتالي إلى أن تجري إعادة بِناء العلاقات الدولية في مجال الثقافة– كما هو الحال في مجالات الإعلام والعلم والتقنية… – على أسس عادلة، وبهدف إنشاء نظام ثقافي عالمي جديد – موازٍ للنظام الاقتصادي العالمي الجديد وللنظامين الإعلامي والعلْمي – التقني الجديدين أيضاً – أيْ أنه من الضروري أن تحدث إعادة بناء كاملة للعلاقات الدولية، بحيث تشمل المجالات الأساسية للحياة الدولية، المادية منها والايديولوجية العقائدية، المعيشية منها والروحية. وتستطيع العوامل الثقافيةوالروحية – الإيديولوجية، بل ويجب أن تلعب دوراً طليعياً وسبَّاقاً، في المرحلة الحالية، لضمان وتثبيت إعادة بناء العلاقات الدولية الواقعية المادية…»…. «إنَّ سائر قضايا الثقافة في البلدان النامية مهيَّأة لاكتساب محتوى جديد وقابلة للنقاش من منظور متميّز في ظروف توجُّه الحياة الاجتماعية والدولية نحو مزيدٍ من العالمية [هذا يعني عولمتَها وبصورة أدقّ: تَعوْلمَها –م.ن]… وتتابع صفحاتٍ وفيرة غزيرة في «الفكر العربي» مِن هذه الأجواء المبتكرة غير المسبوقة ولكن قبل وجود شيء من ذلك عام 1984: بيريسترويكاغورباتشيوف (إعادة البناء) أُعلِنت بعد هذا وذلك في نيسان عام 1985 (أي العام التالي)، العولمة التي أرجعها العالَم «لِثيودورليفيت» في مقالٍ من بروشيور يصدر عن هارفارد عام 1985 أتتْ بعد هذا وبعنوانٍ كئيبٍ شديد التخصص والخصوصية وضِيق الآفاق، اِقرأْه: «عولمة الأَسواق»globalization of markets- (هذا على ذمّة الباحث الاقتصادي العراقي د. كريم نعمة النوُري مِن الأكاديمية الاقتصادية البلغارية وباحثين أوروبيّين كُثُر ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD لأهمّ الدول المتقدمة في الشمال التي رصدت نشوء وتاريخ مصطلح العولمة).

ويبدو أننا سنتوقَّف هنا لتجاوُزِنا الحجم المطلوب، عسى ولعلّ أنْ نُتابع ما بُدِئ في زمكانٍ ما تالياً.

البعث ميديا || د.معن النقري