ما العمل اليوم بين الإيدولوجيا والبراغماتية؟
د.عبد اللطيف عمران
في أواخر القرن الماضي، ألقى د. عبد العزيز سعيد – باحث ومستشار أمريكي من أصل سوري – محاضرة في مكتبة الأسد الوطنية بعنوان (الذرائعية)، تلقاها الحضور الواسع بتباين كبير ونقاش حاد، في وقت كانت تتعرض فيه الطروحات الإيديولوجية في العالم إلى هزات عنيفة بعد سقوط جدار برلين، وصعود طروحات بعد، ما بعد الحداثة مشفوعة بالأسس الفلسفية لمنظري سياسات المحافظين الجدد – “من ليس معنا فهو ضدنا” – من ليو شتراوس إلى برجنسكي، وفوكوياما، وهينتنغتون.. إلخ؛ وكانت الأحزاب السياسية في سورية تنأى بنفسها- نظرياً – عن الذرائعية، أو البراغماتية، أو النفعية، أو العملياتية.. إلخ، مما هو من مترادفات تحيط بهذا النسق مما يُسمى علمياً بـ “الفلسفة الأنغلوأمريكية”، أو فلسفة العالم الجديد، لأنها ومحازبوها استمرؤوا، مع توالي العقود وتبدلات الواقع، التزام واحترام الإيديولوجيا أو العقائد، وهم في هذا على كثير من الحق والصواب، فهذه الأحزاب، ونظيراتها عند الشعوب الآسيو-أفريقية والأمريكية اللاتينية، كان قادتها وكوادرها من مواليد وشبان وكهول حركة التحرر الوطني العربية والعالمية التي أسهمت هذه العقائد والإيديولوجيات في نصرتها وتحررها من الاستعمارين القديم والجديد، ما رجّح الانتصار – الدائم والمستدام على ما يبدو – للمبادئ والقيم والشعارات والأهداف “المثالية والنبيلة”، لا للبراغماتية.
في (تلك) الظروف – ولست على يقين إذاً في (هذه) أيضاً -لحق البراغماتية ما لحقها من مرذول الصفات كالانتهازية والانتخابية المحضة، والغاية أو “الغابة” تبرر الوسيلة وتسوّغها، فاعتبر الناس مجرد النأي عن البراغماتية والذرائعية هو فضيلة وقيم وأخلاق ومبادئ. نعم ظُلمت البراغماتية كنسق فاعل ونفعي في الفكر وفي العمل.
وهنا لا بد من مقاربة موجزة للتعريف ببعض المصطلحات الواردة أعلاه، والتي لم تبق مع مرور السنين، ومع تنوّع التداول وتعدده، مصطلحات محضة، بقدر ما أضحت مفاهيم توُظف حسب التجارب والظروف والمصالح الخاصة؛ ولا ضير في هذا التوظيف، على نحو ما نظفر بتعريفات متعددة في العالم للحرية والاشتراكية.
فقد اجتهد الباحثون في المشابهة والمفارقة بين العقيدة والإيديولوجيا، وكادوا يستقرون على عديد من أوجه الشبه، وقليل من المفارقة على نحو أن الإيديولوجية: هي “نهج من القاعدة إلى القمة”، فهي واقعية وعمل وجدل وتضاد لتحقيق التقدم المنشود من خلال الجهد البشري، وأن العقائد: هي “نهج من القمة إلى القاعدة” فهي انسجام وتكامل وأحلام وإيمان وعمل ويوتوبيا أيضاً. وفي هذا الصدد بذل الليبراليون جهوداً واسعة لاعتبار الإيديولوجيا والعقائد بعيدتين عن الحياد العلمي، وعن المرونة اللازمة للنهوض بما يتطلبه واقع الشعب من آمال وأعمال، ثم تراجع بعضهم ليؤكد أن “فلسفة العلم” تقرّ بأن النزعة العلمية هي أيضا لا تخلو من الإيديولوجيا، وأن الحياد العلمي وهم، إذ كثيراً ما يقترن بالذاتية كميول وأهداف فتغيب عنه الموضوعية، فليس العلم نقيضاً للإيدولوجيا، إذ كثيراً ما يمكن اعتباره إيديولوجيا، فالحيادية العلمية المتحررة من المصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومن الإيدولوجيا، أضحت موقع شك في كثير من الأبحاث، وهذا ما أوضحه الفيلسوف كارل بوبر في أبحاثه، وأيضاً هي واضحة ومهمة في الدراسات التي تناولت طروحاته.
وبالمقابل، يرى البراغماتيون (الذرائعيون – النفعيون – العمليوّن) ضرورة ربط المعرفة بالمصلحة، فنشر فيلسوف العصر يورغن هابرماس كتابيه المهمين والمترجمين إلى العربية (المعرفة والمصلحة)، و(التقنية والعلم كإيديولوجيا)؛ وفي هذه الروح، أتت سجالاته بعد حين مع فيلسوف ما بعد الحداثة (التقدمية) جاك دريدا التي أقضّت طروحاته مضاجع فلاسفة المحافظين الجدد كما يظهر هذا جلياً في الكتاب المهم (الفلسفة في زمن الإرهاب)، والذي انتصر فيه دريدا لحقوق العرب ولمقاومتهم.
كما يرى البراغماتيون أن الإيديولوجيات المنطقية، والثوابت التي ظلت حقائق لقرون ماضية، هي ليست حقائق مطلقة، فالحقيقة هي “مطابقة الأشياء لمنفعتنا، وحقيقة اليوم قد تصبح خطأً الغد”، والمعيار الأهم هو مدى الإفادة، فالعالم مرن وهو متسع أمامنا، وليس صلباً ولا ضيّقاً، فهم ينظرون إلى قيمة المعرفة والمفاهيم والعلوم والنظريات، من خلال (نجاح) توظيفها عملياً وواقعياً، فالشخص أو الحزب أو البلد البراغماتي هو واقعي نفعي يؤكد على العلاقة بين الفكر والعمل، والمنفعة العملية هي مقياس صحة الأفكار والخطط؛ وهذا ضروري في منهج البحث وتطبيقه، وفي الإدارة والاقتصاد والسياسة، وحل النزاعات أيضاً، وكذلك في (الانتخابات). فالمنافع أهم من المبادئ كما نجد عند الأمريكان، فهم – دولة ومجتمعاً ومفكرين – مؤسسات نفعية عملية، براغماتية، ولا كبيرَ قيمة عندهم للتأمل، ولا للمبادئ، ولا للإيديولوجيات؛ وهذا ما نراه في مؤلفات كبار البراغماتية لديهم، من المؤسس تشارلز بيرس إلى معاصره الأشهر وليام جيمس وبعدهما جون دي وي، فقد ولدت البراغماتية وتطورت مع تطور الدولة العظمى، وكانت هي القول الفلسفي الأسطع لسياساتها الخارجية، والداخلية أيضاً، منذ أن قاد جورج واشنطن حرب الاستقلال الأمريكية عن بريطانيا، وعلى هذا الأساس توحدت الولايات الشمالية مع الجنوبية.. إلخ.
المهم: لا، ولن يغيب السؤال، ولن التساؤل، ولا الخلاف أو الاستدراك في هذا الطرح، وفي المثل الصيني التنموي اليوم “لن نتجادل في أيهما أفضل: القط الأسود أم القط الأبيض.. المهم من يصطاد الفأر أولاً”، إنها براغماتية الشيوعيين الواعدة وعندنا اليوم في الحزب والدولة مرحلة تشبه الانتقالية، ولا شك، نحو الأفضل، مرحلة قد لا تستطيع فيها أن تنفذ عقائديتك إلا بقليل أو كثير من براغماتيتك، وهذا ما نرى صداه اليوم في سجال البعثيين الواسع حول واقع عملهم الحزبي ومستقبله في مؤسساتهم، وفي المجتمع، وفي الدولة. فهناك من يقول إن العقائدية ضرورة في حزبنا ومنظماتنا ونقاباتنا وقواتنا المسلحة (البنى الفوقية)، لمواجهة التطرف والتعصب والإرهاب والصهيونية، بينما البراغماتية هي الأهم في المؤسسات التنفيذية وفي السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية (البنى التحتية). والبعث العقائدي، الذي أكد لا شك أن المبادئ أهم من المنافع، لم يطرد كلياً البراغماتية من تاريخه، وقد يكون لا ضير معها في حاضره ومستقبله.