ثقافة وفن

الثقافة العربية.. دائها ودوائها

واحدة من مفردات الروح العربية الأصيلة، تفيد بأن العالم الحقيقي لا يقف بباب أي كان ينتظر رزقه، ولا يستجدي بعلمه، فقيمة العالم بما هو عالم، لا بما هو “كاركوز” أو مهرجا في حضرة هذا الأمير وذاك النبيل كما العصور الوسطى، لذا لا يذهب إلى قصور الرمال ويقصد دنانيرها، بل إليه تحج الأمراء والملوك، ويذكر التاريخ أن “سيف الدولة الحمداني”-915-967- أمير حلب، جاء إلى دمشق ليعزي بالعالم ” “الفارابي”-339-950-والذي جمعته به وبعلمه صداقة نبيلة، حتى أن شيئا من القدسي وقع تحت سلطان السؤال في أمر جلل كحال العلماء، في أية “إنما يخشى الله من عباده العلماء” بعد أن بدأ مذهب علم الكلام بالظهور في العصر العباسي، وتحديدا في الفترة التي حكم فيها المأمون”-786-833-الدولة العباسية ثالث خلافة إسلامية، ومعروف عنه تشجيعه للثقافة والفكر والأدب و الترجمة لمعرفة أمور وأحوال الأمم الأخرى، فكان أن صارت بغداد عاصمة الدولة العباسية، محج لطلاب العلم والأدب بكافة أنواعه، وإن كنا ندين في عصرنا الحالي إلى ما وصلنا من فكر و علوم وآداب التي وصلتنا عبر الزمن، أيضا، فهو عائد لأخر ما أنجزه العرب قبل انهيار دولتهم الثانية، كما أننا أيضا ندين لما نحن الآن عليه في المنطقة العربية من تفكك وضعف وفرقة، لنفس العصر ولنفس أسباب الازدهار، وحين بدأ نجم هذا الازدهار الفكري والعلمي والفني بالأفول، كان نجم الدولة العباسية يأفل حقا، حيث تعددت و تنوّعت الأسباب التي أدّت لانهيار الدولة العباسية، ومن أبرزها: بروز حركات شعوبية ودينية مختلفة في هذا العصر، وقد أدّت النزعة الشعوبية إلى تفضيل العرب الأعاجم على العرب “ما أشبه الليلة بـ البارحة يا امرؤ القيس- وقام جدل طويل بين طرفيّ النزاع، وانتصر لكل فريق أبناؤه أو أنصاره. وإلى جانب الشعوبية السياسية، تكوّنت فرق دينية متعددة عارضت الحكم العبّاسي، وكان محور الخلاف بين هذه الفرق وبين الحكام العبّاسيين، هو الخلافة وإمامة المسلمين، وجعلت هذه الفرق الناس طوائف وأحزابًا، وأصبحت المجتمعات العباسيّة ميادين تتصارع فيها الآراء وتتناقض، فوسّع ذلك من الخلاف السياسي بين مواطني الدولة العبّاسية وساعد على تصدّع الوحدة العقائدية التي هي أساس الوحدة السياسية، التي أدت إلى انهيار بغداد -1258- وجرى ما جرى لهذه الحضارة التي أدى تقدمها الفكري وتطورها الثقافي وتعدد الرؤى والثقافات فيها إلى انهيارها، حيث أنه أوصلها إلى ما صارت عليه قبل زوالها من شرذمة وفرقة دينية وتفكك في الروح العربية، وكأننا نمرّ بالتاريخ نفسه، اقصد في الحالة المضطربة جدا، التي نحن كعرب عليها اليوم من فرقة وشتات واقتتال، ومحاولة بعض الدول التي رجعت لها روحها “القبلية” السطو على دول عربية أخرى، أي تماما كما جرى مع تداعي العصر العباسي.

هنا توقف زمن التطور والتقدم والازدهار العربي، وصارت الدولة دويلات متناحرة أفنى بعضها بعضا، وجاء ما جاء على المنطقة العربية من الاستعمار العثماني، الذي حاول جاهدا إفناء اللغة العربية، لأنه يدرك أن شعب لديه لغة واحدة، سيبقى مجتمعا وسيكون له قيامته ذات يوم ليدحره، وهذا ما حصل.

ولكن ما علاقة العلماء بهذا الحديث؟ في الحقيقة إن لهم كل العلاقة، فبعد الحرب العالمية الأولى ووعد بلفور القذر، وسايكس بيكو، التي نشهد اليوم نسخة مطورة عنها، وبعد الاستقلال الذي نالته الدول العربية ومنها سورية في طبيعة الحال، لم يعد مثقفيها وأهل الفكر فيها، إلى وصل ما انقطع من هذه الثقافة بزوال الدولة العباسية، بل إنها ذهبت تحت ضغط الانفتاح على العالم، نحو ثقافات أخرى استوردها أشخاص من بلاد أوربية ذهبوا ليدرسوا فيها، فجاؤوا لا ممتلئين بعلمها وأدبها وثقافتها ليطلعوا على سبب تطورها فقط ليطورا ما لديهم، بل مفتونين بالعلوم و بالأدب الغربي بعمومه “الفرنسي” بشكل خاص، وكان أن ظهر قبل الحرب العالمية الثانية التي غيرت معالم العالم مرة واحدة وإلى الأبد، العديد من المدارس الفلسفية والشعرية الغربية، التي فتنت المترجم والمثقف العربي وصار يريد أن يجعلها ثقافته، وثقافة الأجيال التي تليه، لكنه لم يكن يعلم أن وبقطعه علاقته نهائيا بثقافته هو –أي العربية- التي كانت في يوم ما من أقوى ثقافات العالم وأكثرها انتشارا، إنما هو يذهب وبكامل إرادته إلى قبوله باحتلال ثقافي معلن، كان له عرّابيه من شعراء عرب وأهل مسرح وسينما، سمتها أنها غريبة عن ثقافة أهل المنطقة كل الغرابة، حتى أنهم أحرقوا مسرح أبو خليل القباني ونجا الرجل بحياته، فما هذا هو الفن الذي يعرفون.

وبعد أن تقاسمت الدول الغربية نفوذها في المنطقة، كان لا بد من توطيد هذا النفوذ، وذلك بإحلال الثقافة الغربية عوض الثقافة العربية، ونجحوا في ذلك أيما نجاح، فالغرب يدرك أن الثقافة الواحدة لشعب يتكلم لغة وحدة، لن يستطيع تفكيكه، وهذا ما صار لدينا، وما أن يبرز أسم عالم أو أديب أو مفكر عربي، إلا وعمل الغرب على جلبه إليه أو قتله في حال رفضه أن يضع علمه إلا في أمته، وهكذا رويدا رويدا، بدأ يتدهور العقل العربي، وصار في مهب الريح، وقل ظهور علماء ومفكرين، حتى أنهم اختفوا بوجود العديد من الأنظمة العربية الديكتاتورية حتى أنه لا دستور لدى بعضها!، يشكل أي فكر أو علم خطر عليها كما تعتقد، ولم يعد لرأيهم- أي العلماء- وعلمهم وفكرهم أي تأثير على أرض الواقع العربي وبين أهله وناسه، أما الكثير من مدّعي “العلم” و”الفكر” فصارت تخرج أفكارهم وعلمهم وحتى فتواهم الدينية، حسب أهواء ذلك الملك أو ذاك الأمير ومصالحه، ليحل مكان العالم، الفاسد، وعوض الشاعر، الكذاب، وعوض المفكر “الحربوق” القادر للوصول إلى دائرة السلطة، يؤيدها ويصفق لها في كل ما تقول، فتمنحه وتعطيه، وهو بعيد كل البعد عن عالم الفكر والعلوم.

تمّام علي بركات