مساحة حرة

الثورة بين الحقيقي والمزيّف

أين مجتمعاتنا العربية اليوم من مفهوم الثورة التي نتجت عن عصر النهضة العربية وما أعقبه من حركة التحرر والاستقلال؟!.

تلك الثورات الحقيقيّة في أكثر من قطر عربي ولعل من أهمّها ثورة الثامن من آذار في الجمهوريّة العربيّة السوريّة، وقبلها ثورة 23 تموز في مصـــر… إلخ، التي أنجزت “انتقالاً حقيقيّاً نحو الأفضل”.

نحن اليوم نرزح تحت وطأة عصر ليس الشعب من يُنتج فيه الثورة، ولا تقترن فيه الثورة بالمواطنة. إنه عصر “صناعة الثورات”، ثورات مفروضة من الخارج على الشعوب المستلبة بالتضليل والتزييف والاستبداد بالوعي ع/ط ثورة الاتصال والمعلومة المعولمة.

ولذلك انتشرت في أرجاء الأرض الثورات: الوردية، البرتقالية، الياسمين، الأرز، الربيع… إلخ من الألفاظ الشاعرية للتمويه والتغطية على المضمون التخريبي والهدف التدميري.

الثورة الحقيقيّة هي التي عشناها في سورية في 8 آذار واستمرّت ثمارها إلى أن دخلنا مع غيرنا من الأشقّاء في “ثورة” خطّط لها بيريز ورايس وبرنارليفي وجين شارب.. وتبعتهم حكومات تركيا وقطر والسعوديّة بالتكافل والتضامن مع المشروع الصهيوأطلسي في الشرق الأوسط الجديد، فالكبير، فالفوضى الخلّاقة “فالربيع العربي”.

تحققت ثورة الثامن من آذار في مناخ وطني عربي تقدمي تضافرت فيه جهود الوطنيين العروبيين التقدميين ورجال الدين المستنيرين إسلاميين ومسيحيين في مغرب الوطن العربي ومشرقه.

واليوم نشهد ردّة في بلداننا على هذا المناخ في السياسة والثقافة، وتزييف رسالة الإسلام السامية، انتقالاً ونكوصاً من عبد القادر الجزائري إلى بن لادن، ومن محمد عبده إلى الظواهري، ومن الكواكبي إلى الجولاني، ومن خير الدين التونسي إلى البغدادي..؟!!

والحقيقة فقد تمّت سرقة مفهوم الثورة، وكم يتألم اليوم الوطني التقدمي وهو يسمع لغو المعارضة المسلّحة في أكثر من قطر عربي عن الثورة، لغو أنتجته ثقافة الارتزاق والمأجوريّة والعمالة للبترودولار، هؤلاء المجرمون التي تجتهد ميديا التضليل لمنحهم زوراً صفة الثوّار. إنه اللعب الخطر بعقول الأجيال، والعبث بالحاضر والمستقبل خراباً وتدميراً… تأسيساً على التطرف والتكفير والإرهاب.

هذا التزييف الذي يستمر نزيفاً دامياً متجاوزاً دمار البُنى التحتية إلى دمار البُنى الفوقية، وهو يضرب اليوم الاستقرار السياسي، والتوازن المجتمعي، والوحدة الوطنية والعيش المشترك في أغلب الأقطار العربية. هذا بالتأكيد ليس ثورة، إنه فتنة.

ولن يستطيع أبداً هؤلاء المجرمون الاستمرار في مصادرة الوعي الحقيقي للثورة، فمشغلوهم وسادتهم في الغرب لا يستطيعون أن ينكروا مثلاً مفهوم الفيلسوف الألماني الأمريكي هربرت ماركوز للثورة في كتابه “العقل والثورة” والذي اقتبسه من هيجل: “الثورة هي إعادة تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس عقلاني”، ولا مفهوم الفيلسوف البريطاني  إريك هوبزبام في أن: “لكل ثورة خصوصيتها من حيث الزمان والمكان، وليس هناك تشابه أو تطابق بين ثورتين”… وهذا غيض من فيض النزوع الإنساني نحو “الأفضل”. وعليه فلن تنتج الوهّابية ولا الأردوغانية أبداً إصلاحاً ولا ثورة.

فمن منّا لا يقلقه المتابعة الدؤوب لمراكز صناعة القرار في الغرب على مراجعة تشكيل دول المنطقة عن طريق إعادة إنتاج مجتمعاتها وفق رؤية تقسيم جيوسياسي تنطلق من تفتيت البنى الاجتماعية في البلدان والمجتمعات العربية والإسلامية؟!.

إن الواقع المعيش يستدعي النظر في المجتمعات والأقطار العربية في النصف الثاني من القرن الماضي حيث تكامل البناء الفوقي والتحتي: جامعات ومدارس وجسور ومشافٍ، مثقفون ومؤلفون وموسيقاريون وشعراء وسياسيون، وهي منجزات لن يمحوها من الذاكرة طفو التحالف الصهيوأطلسي الرجعي العربي الراهن، إنها في مرحلة كمون سيعقبها نهوض لا شك قريب.

إن المفهوم الحقيقي للثورة هو الذي سيبقى راسخاً في وعي شعبنا وهو الذي سيمكّننا قريباً من أن نسمع في سورية: لا للتضليل والتزييف، لا للفتنة والتطرّف والتكفير. نعم للجمهورية العربية السورية، نعم للعَلَم الوطني، نعم للوحدة الوطنية، نعم للجيش العربي السوري، نعم للقائد بشار الأسد الذي أوضح في وقت مبكر من معترك تزييف مفهوم الثورة: “الثورة أتت من أجل أن تبني الإنسان والوطن لا من أجل تدميرهما”.

والشعب السوري بهذا الفهم الحقيقي للثورة: متفائل.

 

د. عبد اللطيف عمران