ثقافة وفن

الدراما التلفزيونية وكسر الحدود

كسرت الدراما التلفزيونية –السورية-المصرية، تحديدا-، الحدود القائمة بين هذا البلد العربي أو ذاك، بما ذهبت إلى تقديمه خلال ما يربو على أكثر من السبعين عاما، من أعمال درامية تلفزيونية، بعد أن نجحت تلك الأعمال، بجعل اللهجة المحلية السورية مثلا، مفهومة عند شعوب دول عربية أخرى، لديها أيضا لهجاتها المحلية الصعبة الفهم، وكما نعلم المحكية هي لغة ثانية، وتعلمها ليس بالشأن الهين، إلا أن طبيعة تلك المسلسلات التي بدأت في ستينات القرن المنصرم، والمواضيع التي طرحتها بمختلف الأنواع الدرامية الاجتماعية عموما، جعلت من تلك الأعمال دروسا منهجية في اللغة المحكية المحلية، وهذا ما يحسب للدراما التلفزيونية تحديدا، باعتبار أن المسرحية منها أشبه بالفرجة الفلكلورية، والسينمائية أيضا لم تقدر أن تصل إلى عقل وجدان الجمهور المحلي، ، لمخاطبتها الجمهور بإغراق شديد في المحلية وشاعرية الصورة والتجريب، عل حساب الحكاية،-الدراما السينمائية المصرية، عرفت كيف تخوض في هذا الشأن- لذا كان كل ممثل سوري، هو بشكل أو بأخر أستاذ لغوي لجمهور أخر، جمهور لا يعلم عن لهجة جاره وقريبه في النسب وفي اللغة، إلا اليسير، طبعا لا ننسى دور الإذاعات العربية أيضا، التي كانت تمرر في برامجها العديد من المسلسلات الإذاعية باللهجة الدارجة، لكن سبب الانتشار أساسا، سببه الدراما التلفزيونية، التي يحسب لها كما قلنا أنها كسرت معظم الحدود الجفرافية، وذهبت لتكون رسالة متعة وتعليم في الوقت ذاته، حيثما حلت.

اليوم لدينا ما يسمى بـ “البان أرب” وهذا الشكل من الدراما الذي يحوي من كل بلد ممثل، وعوض أن تركز الحكاية فيه، على ما يعني الناس حقا في العالم العربي، والعمل على تقديم قصة جيدة وممتعة وفيها بالضروري ما يلم الشمل، راحت لتحاكي الغرب في أسوأ أشكاله، وهذا النوع من الدراما، لا يعول عليه في صناعة وعي عام، أو حتى تعليم لهجة ما، لأنه وعي غرائزي، هذا إذا لم ينسف أساسا كل تلك الجهود السابقة التي سعت لهذا في الدراما التلفزيونية السابقة، المحلية منها والعربية، ومن المعروف أن البطولات العربية المشتركة في الدراما ليست ظاهرة جديدة على المشاهد العربي عموماً، فمكتبة السينما العربية تحفل بالعديد من الأفلام السينمائية “المصرية– السورية– اللبنانية بشكل خاص” التي كان يجتمع بأحدها مثلاً أربعة أو خمسة نجوم من أهم نجوم العالم العربي، وغالباً ما كانت هذه الأفلام تحمل أفكاراً خفيفة نظيفة كما يقال وفيها ما يشدّ المشاهد إن كان في قصة الفيلم التي تدور حول ثيمة الحب غالباً، أو بالأداء الممتع الذي قدّمه أولئك العمالقة الكبار مثل فريد شوقي ودريد لحام ورفيق سبيعي وشادية ونهاد قلعي وصباح وفهد بلان وآخرين، الذين أظهروا بشكل رومانسي طبيعة الحياة في المجتمعات العربية وإن كانت تلك الظاهرة نقلتها بشيء من “الأوفرة أحياناً”، وهذا ربما ما كان يشدّ المشاهد الذي لن يتأخر عن الذهاب إلى السينما حال نزول أحد الأفلام الجديدة التي تجمع نجومه المحبوبين، عوضاً عن مشاهدته لفيلم أجنبي. إلا أن هذه القاعدة التي كان من الممكن البناء عليها في حال وجد فن عربي حقيقي قيمته في مستواه الفني لا في قصر تنانير ممثلاته، لم تنسحب على الدراما التلفزيونية العربية المشتركة التي بدأت تغزو الشاشات العربية مؤخراً، بعد أن أصابت عدوى الدراما التركية والهندية عقول وأفكار المنتجين العرب، وظهر ما يدعى با “البان آرب” وبالتالي اختلفت مفاهيم كثيرة بين ما كان حالة فنية حاضرة في الأمس بكامل عناصرها، وما صار إليه حال الفن عموماً اليوم باعتبار أنه تجارة تخضع لقوانين الربح والخسارة ذاتها، وهذا ليس عيباً، لكن ما هكذا، ولا بهذه الطريقة ولا وفق هذا المنطق الذي يحكمه منطق السيقان العارية والصدور المكشوفة والغرام الملتهب بمناسبة ومن دونها.

الغريب في الموضوع أن العديد من النجوم السوريين المخضرمين، الذين لمع نجمهم وصاروا الوجوه المطلوب رؤيتها عند المشاهد العربي بالمقام الأول، قبلوا أن يُعاملوا من شركات الإنتاج وكأنهم سلع، ارتضوا أن يكونوا شخصيات كمالية، كما التحف في منزل برجوازي مثلاً، وجودهم فقط هو لإضفاء مزيد من الهالة على نجمة العمل، التي هي عارضة أزياء بالأصل، وأداؤها غالباً محكوم بمنطق الفيديو كليب الذي خرجت منه إلى نجومية درامية عربية منقطعة النظير، هذا عدا عن أخطار هذا النموذج بالدراما، باعتباره يسحب البساط، من تحت النجم السوري، وفي المستقبل يستطيع التخلي عنه.

ولا أدري إن كان بالإمكان التماس العذر لهم فالإقامة في المدن العالمية تحتاج إلى جيب عميق، والمبرّر لقلة القيمة التي يظهرون فيها جاهز تحت لسانهم “هكذا يريد المشاهد”!.

طبعاً حديثنا هنا عن الشكل العام لهذه الدراما العربية المشتركة المخزية، فللموضوع نواحٍ أشدّ خطورة سيكون لنا وقفة معها تباعاً منها على سبيل المثال أثر هذه البطولات الجماعية في المستوى والقيمة الفنية للعمل الدرامي، فضلاً عن قيمة القصة نفسها التي تقدّم، إن كانت تستحق هذا السخاء الإنتاجي أم أنها مسخ مشوّه عن منتج سينمائي غربي مأخوذة حكايته من عدة أفلام أجنبية، لا قيمة لها إلا في كونها موجودة للمفاضلة بين أنواع الرداءة السائدة في عالمنا العربي بمختلف أقطاره.

نعم كسرت الحدود حدود اللهجات المحلية للدول التي اعتنت بهذا الفن، إلا إن إخضاعه لمنطق التجارة والربح، فهذا جعل من تلك الحدود، سيفا مسلطا على رقبة درامانا المحلية أولا.

تمّام علي بركات