مساحة حرة

الهجرة إلى الهجرة..!

حلم الهجرة والإقامة في بلدان أوروبية أو في ولايات أمريكية، وحتى في صحراء الخليج العربي القاحلة، هو حلم راود الكثير من السوريين قبل بدء الحرب، وهذا ليس بالكشف العظيم، حيث كانت فكرة السفر إلى أوروبا بأي طريقة تعتبر الحلم في الخلاص من البطالة والواسطة والمحسوبية والفساد وغيرها من الأسباب المتعلقة بالحياة المعيشية اليومية بشكل مباشر والمهنية أيضا في بعض الحالات، أسباب جعلت الناس يحاولون الهجرة من البلاد وكان من النادر أن يمر أحدنا بجانب السفارة الفرنسية أو الأمريكية والكندية وغيرها، إلا ويشاهد جموع من السوريين يقفون كالمسرنمين منذ ساعات الصباح الأولى- هناك من كان يبيت ليلته على باب السفارة- وهم يحلمون باللون الأخضر، بـ”الغرين كارد”، المفتاح السحري للحياة المختلفة، كرت اليانصيب الفائز، رغم تباريح الغربة التي ستبدو فيما بعد وكأنها مزحة سمجة لا أكثر، حتى أن البعض اختار أن يقدم سببا وضيعا لتقبل تلك السفارات طلبه، في حال لم يتم الموافقة عليه، كتغييره دينه مثلا وما يعني هذا بحقه من تطبيق حكم الارتداد عن الدين، رغم أن هذا لم يحدث في سورية في وقت مضى أبدا، وهناك من بدل فيزيولوجية جسده وهويته الجنسية أمام هذا القنصل وذاك السفير، وحجته أن الوطن لا يؤمن بالاختلاف!، وهو مشكلته مع نفسه أولا وليس مع الوطن– هذه وقائع حدثت وليست من بنات الأفكار- إلا أن هذا الحلم الصعب المنال والمكلف ماديا، صار ممكنا بعد بدء الحرب على سورية، بدأ ذلك النهر بالتدفق وكأنه نزيف لا يتوقف، حتى صارت الهجرة نحو الشمال والجنوب، وكأنها مواسم جماعية لا تنقطع، ولم يعد بين أحدهم والحلم المشتهى أي عائق إلا الموت، وهذا حدث مرات عدة غرقا.

إلا أن المهاجرين السوريين ليسوا جميعا هاربين من الحرب كما يتم تصويرهم وتقديمهم للرأي العام، فهناك من هاجر هربا من الحرب وهناك من هاجر بسبب عدم وجود عمل يعيله في زمن الكساد هذا، وهناك من هاجر بعد أن قام بأخذ إجازة طويلة بلا راتب من عمله، وذهب ليجرب الغربة واللجوء، فإن أعجبه الأمر أو وجده مربحا بقي، وإن لم يحصل هذا، فها هو الوطن في انتظاره بل وعمله أيضا، وقد يكون ترك زوجة وحيدة هنا بعد أن خرج بولديه اللذين هم في سن التكليف العسكري، ورغم هذا فهو يدعي الوطنية، وستروه من أشرس الرافعين لشعاراتها، لكنه لا يريد أن يذهب أولاده إلى الجيش، وهو أيضا لا يريد أن يخسر المنفى الذي صار مربحا، ولا الوطن في حال انتصر، وهذه الشريحة موجودة، وليس الفقير لله من اخترعها من العدم! لكن ما الجديد في هذا؟ أو ليست هذه حال الحروب في تعريتها الشديدة لكل المفاهيم والقيم والاختلافات المبطنة والاتفاقات المشكوك بصمودها سلفا؟ أما هذا من طبع الحروب التي تعري فيما تعري أيضا، الأرواح والأنفس، تعريها من الوريقات الأخلاقية والوطنية الغضة، التي حاول الإنسان وهو يشق عمره أن يبقى محافظا عليها ليحافظ على إنسانيته، حتى تلك الوريقات سقطت عندما أمتحن المعدن الوطني والأخلاقي، وعندما صار الوطن ومآسيه، عبارة عن “بسبورات” زرقاء، مختوم عليها “لاجئ”.

تمّام علي بركات