مساحة حرة

خان شيخون بانتظار سيف العدالة

يبدو أن جريمة خان شيخون لن تنتهي إلى أرشيف الجرائم الدولية كغيرها، ولربما تكون حداً فاصلاً يمهّد لفتح الملف الحقيقي – لا المزيف – لجرائم الحرب في سورية؛ وهو ملف من الضخامة والاتساع والتنو ّع بحيث يضع ثمانين دولة على الأقل في قفص الاتهام، بل وتحت الإدانة المباشرة، ومن ورائها سلسلة لا متناهية من الجيوش والميليشيات والعصابات المسلحة، ومثلها من “مؤسسات مدنية وإنسانية” موازية، مدعومة جميعها من الخارج مالياً ولوجستياً وسياسياً وإعلامياً بغرض إسقاط “النظام السوري” أخلاقياً ومعنوياً في الطريق إلى إسقاطه سياسياً.

وإذا كانت يوميات الحرب على سورية سجّلت عوالم من التذاكي الفج والساذج الذي بلغ أحياناً كثيرة حدود اللامعقولية والغرائبية، فلأن عمليات الكذب والتزوير والتلفيق والفبركة شهدت من جانبها مستويات غير مسبوقة من ابتياع الضمائر واستئجار الأخلاقيات المهنية بحيث عملت المنظمات الدولية الخاضعة أصلاً للهيمنة الغربية، وتيار الإعلام الغربي السائد والسائر في ركبها، وقبل كل شيء، على شيطنة حس الوطنية السورية – المحفّز الأساس للدفاع عن الكرامة والاستقلال والسيادة – وحوّلت الضحايا إلى جلادين، وجعلت من الإرهابيين وعتاة القتل “ثواراً منتفضين” في سبيل الحرية والعدالة.

وباختصار، فقد شهدنا على امتداد السنوات السبع الماضية مايشبه استعراضاً كابوسياً لمآثر وبطولات مصاصي الدم، وأكلة لحوم البشر، تسلّّح بأحدث ما طوّرته الترسانة الدبلوماسية والإعلامية الغربية من أساليب وأدوات و”مهارات” دموية وتضليلية انتهت كلها، بكل هولها وتوحّشها، وتفاهتها على أية حال، إلى ما انتهى إليه الحشد العسكري ودعم الإرهابيين من فشل.

منتصف آب 2017، ها هم الجميع، كما يبدو، في طريق العودة، بما في ذلك فريق المنظمة الدولية لحظر الأسلحة الكيماوية، والذي لم يكن ليسمح له بالقدوم إلى سورية لولا الـ “OK” الأمريكية. يأتي هؤلاء للتحقيق باستخدام الأسلحة المحرّمة في “هجوم” خان شيخون في نيسان الماضي، والذي كان توافق ترامب و”ايفانكا”، خلال تلك السهرة العائلية الشهيرة، على أنه “سبب كاف” لقصف مطار الشعيرات. والجميع، بالطبع، يعرف بقية الحكاية، فمنذ ذلك الحين بدأ عملياً النزول الأمريكي عن الشجرة، لتبدأ معه “العودات” الجماعية التي تكاد تأخذ، وسط مشهد تختلط فيه الدهشة بالمفارقة، طابع الهرولة والتدافع والعشوائية.

 

وعندما يقال: إن مجزرة خان شيخون قد تشكّل حداً فاصلاً، فذلك بالضبط لأن مجرد الموافقة على إجراء تحقيق لا أحادي الجانب، وليس من طرف واحد، إنما تنطوي أولياً على الاستعداد الضمني للتخلي عن الأحكام الجاهزة ورفع العمل بالاتهامات المسبقة، وهو ما كان، على الأقل، وللأسف، مصير جريمتي الغوطة الشرقية في دمشق وخان العسل في حلب؛ والأهم أن مبدأ التحقيق، بحد ذاته، قد يشكّل قاعدة عمل مستقبلية للبت في سائر الجرائم والانتهاكات التي قد تجد من يتولى التعتيم والتغطية الكاملين عليها، أقله تحت زعم دعم “الثورة المخذولة”، علاوة على أن مسار الحرب على سورية مرشح لاحتمالات وارتدادات عكسية، ولربما مفاعيل رجعية، بمعنى العودة لإعادة وضع الأرشيف السري للجرائم ضد الإنسانية، التي لم تشهدها سورية إلا على أيدي الجماعات المسلحة والأطراف الدولية الداعمة لها، فوق الطاولة، خاصة وأن الانتصار السوري لن يحمل في طياته وحسب الاعتراف بسورية مجتمع “موالاة” صامداً ومنيعاً وقوياً، و”نظاماً حاكماً” وطنياً ومقاوماً ومحصناً أخلاقياً وسياسياً، بل وسوف يحكم على المجموعات الإرهابية وداعميها، من الحكومات والأنظمة الرجعية، بالاندحار الإيديولوجي والهزيمة التاريخية، وبما قد يجره ذلك من بيئة مواتية لإعادة تنصيب الحقائق على قدميها ومحاسبة كل من أجرم بحق الشعب السوري أو غطّى على الجرائم المرتكبة، لا لشيء إلا لأنها أنظمة بحكم الميتة.

سوف يصل فريق التقصّي بعد أن طال انتظاره سورياً. وسوف يكون هذا الحدث بحد ذاته نقلة سياسية ودبلوماسية تضاف إلى رصيد سبعة أعوام من الإنجازات التي حقّقها الجيش السوري – ولا غيره سورياً – في ميادين الثبات والمواجهة ضد مؤامرة دولية قلّما حشدت مثل هذا الرهط من العملاء والمرتزقة والمتعاونين والمتسربلين تحت عمائم الفتنة، والمتنكرين بعباءات حقوق الإنسان، والدعاة العفنين للمطامع الاستعمارية القديمة والجديدة.

وإذا كان سيف العدالة بانتظار قتلة الأطفال والمدنيين في خان شيخون – وهو المتوقّع وإن كان في ختام عملية طويلة ومعقدة لاتخلو من التحديات القانونية والسياسية – فإن كل ضحايا الإرهاب من أبناء الشعب السوري سجّلوا موعداً مع عدالة لن يتنازلوا عنها مهما طال الزمن.

بـسام هـاشـم