مساحة حرة

عن النسغ والحياة والخلود

في العائلة جيل لا أعرفه جيدا وذلك بسبب بعدي الجغرافي عن قريتي “الخطيئة التي لن اغفرها لنفسي ابدا” ، أعرف أباءهم – أخوالهم – أعمامهم ، أما هم فلا أعرفهم إلا من خلال صور قديمة من زمن طفولتهم، لا زالت عالقة في البال ، عندما كان أحدهم مثلا يجيء بزيارة مع والديه في فترة طفولته إلى بيت العائلة، ولأنني اعبد الطفولة والأطفال، سيصبح صديقي فورا ولن تكون إلا مجرد دقائق حتى يبدأ بزيادة جرعة تظارف الاطفال المطمئنين “اعتقد جميعكم يعرفها” ، ثم سينقضي هذا اليوم وربما لن أعود لزيارة القرية حتى العام القادم ، فتكون الحياة قد اكملت أيضا دورة كاملة من صيرورتها ، وربما سأعود لمقابلة هذا الطفل وربما لا ، ويبقى سؤال الأهل عندما نلتقي عن حال الاولاد : كيف الأولاد ؟ بخير الحمد لله، ثم يمضي الحديث لدروب أخرى صار أبرزها مؤخرا العزاء والمواساة بالفقد العظيم.
منذ مدة وأنا أُقلّب في صفحات الفيس أو “كتاب الأوجه” راحت تظهر صور لشباب في مقتبل العمر، شباب وصبابا يحملون كنيتي الخاصة وبعض من ملامح تتشابه ولو من بعيد “إنه الدم الأليف الذي يجمعنا حتى دون أن نعرف بعضنا البعض “يضحكون في الصور من قلوبهم فتضحك الدنيا ويبتسم مرغما القدر، يخطون بيفاعة قلوبهم النقية رغم كل هذا الوجع، حيث سيسكن الكثير من الفرح في قلبي وأن أرى الطفلة “سالي” الملاك، وقد صارت صبية جميلة كغصن حور متهاد على خرير الساقية، تدرس الطب، وها هو الطفل باسل “عاشق العصافير” يلقي السلام علينا من صورته التي تربع فيها بمنزلة شهيد، بعد أن حلق مع العصافير التي أحبها وهو في طائرته الحربية.
ربما غدا ستنقلب الأدوار ويكونون هم من يرون صورا لبعض لحمهم ودمهم تمر أمامهم دون ان ينتبهوا لها، وهذا يجب أن لا يحدث، فهذا البلد يحيى بأولاده المحتفلين بالحياة لأنهم أبناء الحياة، فلذات جباله وسهوله ووديانه، الناظرون لغد قريب أفضل رغم الجراح، وهؤلاء هم من نمدّ لهم الجسور اليوم، و هم من يبذل الشهداء دمهم ليستمروا، وعليهم غدا أن يكونوا كذلك عندما يحين دورهم لتلبية نداء الحياة التي يسعى خلفها بلا ملل ..الموت.
إنه نسغ الحياة في هذا البلد الأمين، حياة الأسرة السورية الواحدة، التي تشبه أحوالها حال كل الأسر السورية، خصوصا في زمن الحرب، وهذا النسغ السوري الموغل في الاصالة، يأتي من عمق الزمان، ويمضي إلى عمق المستقبل، حيث راية الحياة والكرامة التي يناقلها أبناء هذا النسغ، هي من ستبقى شعلتها خالدة، مهما غيرت الأزمان أحوالها وأشكالها وطبيعة التضاد الدامي أحيانا فيها.
تمّام علي بركات