ثقافة وفن

فياغرا ملونة!

كثيرة هي الأوقات التي يسقطني فيها اللاوعي من قمة شرودي وأنا أرنو بعينين ذابلتين إلى ممالك طفولتي، وهي تتقوض تحت جنحِ النسيان، بالسؤال اللعين هذا: ثم ماذا بعد كل ذلك ؟! ماذا بعد التسامق والحدة والخوف والرغبة ؟ وإن عدت لأهمس لشرودي قليلاً، تعود إشارة الاستفهام لإيقاظي من غفلتي المباركة: هي أنت، يا من تنشر ألواح صدرك للموت بدعوى التفاؤل، هل أنت مؤمن حقاً بما تقوم به ؟
يرن الصمت كخلخال في قدم راقصة ميتة، وتعود إشارة الاستفهام لإزعاجها المعتاد: هل أنت سعيد بما تفعل في حياتك بلونها المائل إلى الندم ؟ أحرّك يدي في الهواء لأطرد تلك الإشارة المملة، كمن يحاول أن يطرد حشرة بغيضة تقف على مقدمة عمره.
-الآخر المقيم على تخوم إدراكي وحواف ذاكرتي المتهدمة، بفم مبلل بكلماتي الميتة وهواجسي الكارثية، مرتدياً زيّ من يوشك على السفر في أية لحظة وفي يده حقيبة مرهقة من احتمالات ذهابها أو بقائها، وفي داخلها تنام العديد من الأشياء الخاصة بي والتي لا أعرف كيف صارت له وملك يمينه ويسراه في آن، أشياء لا قيمة لها كسكين صدئة مثلاً لطالما رغبت بمقدار رغبة السيد “رسكولينكوف “ أن أطعن بها أشخاصاً كثراً، أحدهم مثلاً ذاك المأفون“ استيقظ من النوم “خصوصاً عندما يمسك بي من ياقة حلم مطرز بحيوات أحبة لم أعد أعرف شيئاً عنهم إلا بمقدار ما يخبرني الحلم عنهم- وكم هو بخيل بذلك – ملامحهم تتضاءل في ذاكرتي المخمورة، حتى تصبح خيوط روائح رفيعة، أكزّ عليها بأسنان قلبي لأمزق ذهابها، وأحياناً أشدها من أطراف شفتها الشفافة كي لا تذهب.
أحبة أرهقوا أيامي وأنا واقف كالمسرنم في محطة كوابيسي، مرتدياً قبعة اللحظات النادرة التي جمعتني بهم، منتظراً وصولهم وأنا بفارغ الكفر برحيلهم هكذا، مردداً: “ثم إنهم ما عادوا بحاجة إلينا أولئك الذين بكّروا بالرحيل”. إلا أنني عندما أهمّ لأطعنه بالسكين التي بتّ أضعها تحت وسادتي إلى جانب مرآة صغيرة كي أتذكرني،كُتب على مؤخرتها” ثلاثة أشهر يا أغرار” يطير ويرف بعيدا على شكل فراشة ملونة.
-أتذكر الآن كيف أضعتُ وشاح آمال بسيطة وشاقة، كنت حكتهُ من لحم أكتافي لأتزيّن به وأنا ألج ملكوت الفصول، أضعته في مقهى الانشراح والتيسترون المبارك، عندما مرّ رجل وقال كلاماً موجعاً عن الفقد والخذلان، تبعته ولم أنتبه أنني نسيت ذلك الوشاح، إلا بعد أن استدار نحوي ليتفقد مَن ذلك البائس الذي يتبع جثة ؟.
قرأت في وجهه الغائر تقاسيمه، طالعي، طالع ماضي أيامي الآتية، تلك التي أخبرتني بأنني لست سوى مهرّج أحرف يتناسل من أوجاعها الحبر، لأجد نفسي أطعن وجهي بالماء وفمي المكتظ بمرارة كلام نبت كالشوك في حلقي بطعنات رشيقة أقولها يومياً، طعنتان غالبا “ صباح .. الخير “ صباح الخير أيتها الحياة التي مرت إلى جانبي ولم انتبه، مرحباً يا من تتنفسون معي الهواء الزائل نفسه.
-في الحقيبة التي احملها “كحردبّة” على ظهري منذ ألاف السنين ،بضع رسائل من دمع متقطع لم تصل، وشريط كاسيت مقطوع، كنت قد سجلت على شرايينه وأنا حائر ماذا أقول، كلاماً كثيراً، لم أعد أذكر منه شيئا، بعد أن صارت ذاكرتي كالبطانية التي تدرّب عليها جنود القلعة طوال الليل بصحبة أقداح نصرهم، وباتت ثقوبها لا تغطي سوى القليل من بقايا أوهام فائضة عن الحاجة، ولكنني أذكر كلاماً وشيت به للكاسيت عن السيدة الوحدة المعلقة في خزانتي، معطفي الوحيد الذي أرتدي صيف شتاء، ليرى كل الذين أحبهم عبثاً، أنني صالح للعزاء في أي وقت، إلا أنني أذكر جيداً كيف أنهيت هذا التسجيل المصيري لمصير محسوم سلفاً، أهديته إلى التي غادرتني وظلت أشياؤها الكثيرة تخترق روحي كالعصافير.
-بعد أن ذهبت رسالتي المسجلة وجابت أصقاع الأرض والسماء وما بينهما من دروب متعرجة، حتى سمعها كل الناس ورددت النايات أخباري طويلاً على مسامع الضجر الذي تعاطف مع انكماشي الأوتوماتيكي، إلا أن من ذبحت حنجرتي بكل أنواع الدموع كرمى لدعساتها اللصة، وهي تصعد أدراج غرفتي في ما مضى، عندما استمعت إليه مع الآخرين دون أن تدرك أنه لها دون العالمين، وجدته فارغاً، ليس من الكلام، بل الكلام المسجل هو الفارغ.
الآخر الذي أخبرتكم عنه سابقاً في زمن ما، لم أخبركم إلى أي درجة يشبهني، يصافحه الناس وينادونه باسمي، وأنا واقف بجانبه، لكن أحداً لم ينتبه إلي وكأنني ظله الكثيف، يزورني كل يوم ويعطيني حفنة من الحبوب لأنام وأخرى لأستيقظ وحبة زرقاء لأحسن الظن بالأعضاء، حين تُستدعى إلى العمل، بعد أن تردد الدم في سقاية رايتها الذابلة بفعل الحنين، وحبة أخرى كي أتذكر من أنا عندما أنظر في المرآة ولا أعرفني،إنه صديقي الوحيد ، حتى وهو يرتدي أصابعي ليكتب ما أفكر فيه وأنا غائب عن الوعي، أو عندما يجلس على حافة ذهولي وهو يشحذ لي السكين الصدئة، بعد أن يعدني بأن لا أتألم وأنا- هو أطعن- يطعن ، صدري- صدره بها، يقف لي كل مساء في خاتمة قصيدتي وهو يقول لي : “ألم أقل لك إنك لن تطيق معي صبراً.”
السكين ما زالت صدئة وهي تئن في ظهر التمثال, وهو ما زال مواظباً على أن آخذ حبوبه من صرة الفياغرا الملونة التي جاءته كهدية قاتلة وتحيي معا، لأبقى- ليبقى..

تمّام علي بركات