مساحة حرة

قيادة جديدة.. أم توجّهات جديدة؟

هناك في عالم السياسة اليوم طروحات مهمة جداً ومتطوّرة حول علاقة المجتمعات الجديدة بالحياة الحزبية التقليدية والمعاصرة. ولعل من أبرز الطروحات هو التساؤل عن “مواجهة الأحزاب السياسية خطر الموت”، حيث يرى بعض الباحثين أن هذا السؤال مشروع والأحزاب لا تواجه خطر الموت، فالحياة الحزبية مسألة حيوية، والمجتمعات المعاصرة بحاجة ملحّة إلى الأحزاب السياسية. لكن بالمقابل هناك من يرى أن الأحزاب السياسية تواجه هذا الخطر في حياتها اليومية، وعليها أن تجتهد لمواجهته، لأن انخفاض عدد الحزبيين مستمر على نحو ثابت، بسبب أنه صار بوسع المرء أن يعبّر عن رأيه من خلال وسائل ما بعد الحداثة، ولسبب آخر هو شعور هذا المرء أنه لم يَعدْ بحاجة ماسّة إلى البطاقة الحزبية تماماً ليخوض الانتخابات التي غالباً ما تشدّ العصب الحزبي… إضافة إلى أن ردود الفعل الإيديولوجية لم تَعدْ كافية للحيلولة دون هذه المواجهة. وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل الدوافع وراء عدد من الآراء التي بدأت تطفو على السطح ويرى أصحابها أن كل الأحزاب والمنظمات تعاني من تجديد منتسبيها وأنصارها -لايتجاوز متوسط عدد أعضاء أكبر الأحزاب الفرنسية الـ 150 ألفاً-، ففي مجتمعات اليوم هناك شعور عند الأجيال الصاعدة بالنفور من الانضباط الجماعي للفكر وللعمل، ومن المقولات النمطية أو الثابتة. فالأجيال الطالعة في الحقيقة لديها ميول، أو انشداد، إلى التيارات والمنظمات ذات النمط غير الرسمي، وهي ترى في الالتزام الذي نعرفه كتقليد ظاهرة مؤقتة يصعب الاستمرار فيها. لا شكّ في أن التعامل مع هكذا نسق من الطروحات التي لم يعد ممكناً حجبها ولا نكرانها، لا يضر الحياة الداخلية لأي حزب، ولا سيما كحزب البعث العربي الاشتراكي الذي اعتمد في سيرورته على مستوى النظرية والممارسة طوال أكثر من سبعة عقود على المزاوجة بين حضور المثقّف والعامل والفلاح والبرجوازي الصغير، فالبعث بأدبياته لم يظهر كمشروع كامل، بل كان واستمرّ كنسق “متكامل”، أي بعيداً عن الجمود والانغلاق، ملتصقاً بالحيوية والانفتاح، وهذا ما جعله وما يجعله قادراً على مواجهة تلك المخاطر الواردة أعلاه. البعث معنيّ على الدوام بالمسألة الحضارية، وبقضية الوجود والحدود، وبمصالح الشعب وبقضايا الوطن والأمة، ولم ينقطعْ عن سياق مواجهة التحديات التي تتصل بهكذا مسائل وقضايا ومصالح كما أنه تجلٍّ مهم من تجلّيات النهضة والحداثة العربية. فمع مطلع هذا الأسبوع، شهدت الحياة السياسية والتنظيمية لحزب البعث في القطر السوري تطورات مهمة جداً ينبغي التوقف عندها لاستلهام أسبابها ومضموناتها وأهدافها بما يفيد العمل الحزبي، والمجتمع والوطن والأمة في التعامل مع أزمة معاصرة كبرى هي “الحرب على سورية” التي قال فيها السبت الماضي الرفيق بشار الأسد الأمين القطري للحزب إنها: “جزء من حرب كبرى تعمل لإعادة رسم خريطة العالم، وهي حرب وجودية ليست على مستوى سورية والمنطقة فحسب، بل على مستوى الغرب أيضاً لأنها تعمل على تغيير كبير للخرائط الجيوسياسية”. وقد أتى حديث الرفيق الأمين القطري للحزب السيد رئيس الجمهورية في سياق عرض سياسي وتنظيمي مهمّ وشامل في مضمونه ودلالاته ونتائجه التي أسفر عنها اجتماع اللجنة المركزية الموسّع للحزب والذي انطلق من ضرورة تقديم نسغ جديد غير تقليدي للحياة الحزبية لا تفرضه الأزمة الراهنة بقدر ما تفرضه ديناميكية الحياة المعاصرة التي يجب أن تلتصق بالمجتمع وبهموم الناس وبأحوالهم، بآمالهم وبآلامهم وتطلعاتهم. وبالمقابل فقد ركّز الحديث على عدد من الثوابت في مواجهة التحديات الدائمة التي تتصل بدور سورية المبدئي والرائد في المشروع القومي العربي بأفقه الحضاري، والمصيري أيضاً، “فلا مفهوم للسوريّة خارج السياق الوطني العروبي، والهوية العروبية لا يقدر على حملها أحد من العرب أكثر من السوريين البعثيين وغيرهم من الوطنيين” هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان هناك من أهم الثوابت أيضاً في مواجهة التحديات الراهنة “الاستمرار في محاربة الإرهاب، وفي العمل على توسيع دائرة المصالحات على ما فيها من تداخلات”. ومن الجانب التنظيمي وعلى صعيد العمل الحزبي فقد رسم الرفيق القائد ملامح مهمّة وجريئة ومتطوّرة تتصل بالمراجعة النقدية لعمل قيادة الحزب ومؤسساته وكوادره بدأت من “الإشكالات التي يواجهها الاجتماع الحزبي مقابل طفو آثار وسائل التواصل الاجتماعي”… وصولاً إلى توضيح كيف تكون “قوّة الحزب وحضوره في المؤسسات وفي المجتمع أهم من المقرّات الحزبية” وإلى أهمية “الاستفادة من العلاقات العامة والانفتاح على مختلف فئات الشعب وقطاعات المجتمع في قيادة العمل الحزبي”. لقد قدّم الرفيق الأسد في طروحاته في اجتماع اللجنة المركزية للحزب، وفي اجتماعه مع أعضاء القيادة القطرية الجديدة للحزب بما حمله من تركيز على دور الاجتماع الحزبي، ومؤسسات الحزب ولاسيما اللجنة المركزية، آفاقاً واسعة وجديدة، شعر خلالها الرفاق الحضور في الاجتماعين بمزيد من الثقة والطمأنينة بالواقع الميداني والسياسي، والارتياح والتفاؤل أيضاً بالحزب وبالشعب وبقواتنا المسلّحة الباسلة. بالنتيجة: هذه التوجهات الجديدة هي التي تجعل قيادة الحزب جديدة، لأنها تنطوي على دلالات أوسع وأكثر تأثيراً من الأسماء.

 

د. عبد اللطيف عمران