مساحة حرة

مياه راكدة ..جدا!

لم تصبح نصيحة العقلاء والمفكرين وغيرهم من المشتغلين في حقول الفكر، لم تصبح غير ذات شأن يذكر، إلا عندما صارت النصيحة “ببلاش” وليت الأمر وقف عليها فقط في الإهمال كي لا نسمي الأمر بتسمية أخرى!، فمن يتابع الشأن المحلي وبشكل يومي وحثيث لن يكون من العسير عليه أن يجد أن ثمة فارق كبير بين الشارع السوري ورغباته وطموحاته وآلامه، وبين الحالة الفكرية والأدبية التي يجب أن تنتج وهي وليدة بيئتها، لا أن تولد كجنين مشوه وفي الشوارع الخلفية، كما يحدث في حال الكثير من نتاجاتنا السينمائية والمسرحية والأدبية عموما، وكنا في غير مقال ومقام، نحن وغيرنا من المشتغلين في الحقل الإعلامي المحلي، قد نبهنا إلى خطورة هذه الحال المتراجعة يوما بعد يوم، وكان ما كتبناه أيضا يندرج في أطار النصيحة المحبة والصادقة، ولكن لا حياة لمن تنادي، فلا زالت على سبيل المثال لا الحصر، الصناعة السينمائية لدينا، يحكمها المزاج الشخصي لا المزاج العملي القائم على المنهج والخطة والنتيجة، فمن غير المعقول مثلا أن يعلن مخرج “ما” أنه في طور التحضير لعمله السينمائي الجديد، وعمله السينمائي الذي كان قد انجزه بالأمس بإنتاج ذات الجهة، ولم يحظى لا بمتابعة جماهيرية ولا حتى نقدية، مازال لم يأخذ فرصته بالمشاهدة باقل تقدير، خصوصا في الظروف التي يصعب فيها ذهاب الجميع للسينما، فلأجل الصدفة أيضا معظم أفلامنا السورية لا يستطيع الجمهور الحصول عليها على شكل اقراص مضغوطة، لأنها غير موجودة – لماذا-؟-، إلا بالطريقة غير الشرعية “القرصنة” وهكذا يظهر فيلم جديد لن يكون نصيبه في المتابعة والمشاهدة والنجاح أفضل من سابقه! الذي يختفي ذكراه تماما، إلا من عند مشاركته صدفة في مهرجان سينمائي عابر في دولة لا سينما فيها أساسا ولا حتى دور لائقة للعرض!
الأمر ذاته ينسحب على حال الكتاب والنص العرض المسرحي والمسلسل التلفزيوني وغيرها من صنوف الفن والأدب التي يعول عليها غالبا في بناء العقول وإنارة دروب الظلام التي تخلفها الحرب، لذا فمن الطبيعي أن يقاطع الناس هذه الحالة الموصوفة ظلما بكونها فنية وفكرية وثقافية، حيث الشكل والمظهر وكل أشكال النفخ الإعلامي القائم على البهرجة والعلاقات “المافيوية”، هي السائدة على حساب تراجع أثر المفكر الحقيقي، والفنان المبدع، بين الناس، وكل متابع للمنابر الإعلامية التي تهتم بالشأن الفكري ظاهرا، سيلحظ أن اهتمامها بذاك الشاعر أو ذاك الروائي وذاك المتفلسف السينمائي وغيرهم، هو اهتمام مبني على مدى الإفادة منه في” البربوغندا” الدعائية التي تتعامل مع الثقافة والفكر والفن، وكأنها “مرطبانات” مخلل وكبيس، لا باعتبارها حمّالة قيم وأفكار قادرة على خلق أجيال متنورة، قادرة على البناء والعطاء لا الدمار، الذي رأينا العديد من السوريين ينخرطون فيه ضد وطنهم وأخوتهم، وهكذا تحولت النصيحة التي قدمها قبلنا العديد من أهل العقل والفكر، تحولت إلى ما يشبه الدريئة التي ترمى بكافة أنواع السباب والشتائم والتهم تلك الجاهزة أو تلك التي ما تزال قيد الصناعة والتطوير، وهكذا وعوض أن تكون النصيحة بجمل، صار لدينا من النصائح ما قتل، فهلا عقلنا واتعظنا، وتنبهنا إلى خطورة اللعب بهذه القيم الموجودة منذ وجود الإنسان، والتي لن تفنى حتى بفنائه!، هلا اتعظنا؟
تمّام علي بركات