مساحة حرة

جنيف 2.. هل ثمة مايدفع للتفاؤل؟!

لا بد أن يمر مستقبل المنطقة واستقرارها، حتماً عبر بوابة التوافق ما بين القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في المنطقة، وتعنت أمريكا وحلفائها وأتباعها لن يفيد، لأنه سيؤدي إلى مزيد من التفجر، وعدم الاستقرار الذي قد يدفع القوى الكبرى، ولاسيما الولايات المتحدة، للاقتناع أخيراً بأن سياسات “الفوضى الخلاقة”، وتفجير الصراعات الإثنية، والطائفية لابد أن تنتهي بصعود الإرهاب الذي يهدد هذه القوى الكبرى ذاتها، وما جرى في سورية من تعويم للجماعات الإرهابية خير مثال، إذ أدركت القوى الدولية، وبعض القوى الإقليمية أن خطر هذه التنظيمات سيطالها، ولعل هذا ما جعل هذه القوى تعي ضرورة البحث عن حل سياسي، لابد أن تكون محاربة الإرهاب البند الأساسي فيه.

لم تنفع الأجواء الحالمة في مونترو في إشاعة أجواء من التفاؤل بحل الأزمة السورية، رغم استمرار البعض بإضفاء قليل من التفاؤل، فهذا مسؤول في الأمم المتحدة يقول: إن التفاوض دائماً صعب في بدايته، مؤكداً أنه شارك في مفاوضات أصعب، كان المتفاوضون فيها يأتون بالسلاح.. ويقول أيضاً: إن الطرفين يفرغان أقسى وأصعب ما عندهما في بداية كل تفاوض، مضيفاً: لكن الوسيط يجد في نهاية الأمر قواسم مشتركة، فيبني عليها، ودور مسؤولي الأمم المتحدة أن يتفاءلوا!.

لكن الحقيقة هذه المرة في مكان آخر، والحقيقة الساطعة أن هناك من يعمل لكي يفشل “جنيف 2″، لأن الدولة السورية في موقع أقوى على الأرض، وأكثر تماسكاً، وهذا أمر لا تريده بعض القوى الدولية، والإقليمية التي كانت وراء ما حصل في سورية، والفشل مطلوب، خصوصاً، لأن المعارضة عجزت، مثلما عجزت على الأرض، عن تأليف فريق يجمع شتاتها، وأطيافها، ويقدم نموذجاً قوياً للتفاوض.

ليس مهماً كيف ستسدل الستارة على “جنيف 2″، الأهم ماذا بعد؟ هل يستمر القتال، ويستعر في سورية،  كما يريد البعض، أم يتم التمهيد لـ “جنيف 3″؟!.

في أجواء انعقاد مؤتمر “جنيف 2” بدأت تطفو على السطح تساؤلات كثيرة عن قدرة القوى الغربية الكبرى على بسط نفوذها وهيمنتها على الجغرافيا السياسية للعالم.. لقد بتنا نعيش أزمنة جديدة فرضتها الأحداث، وأهم عناوينها فشل المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة بفعل المقاومة، ولم يعد أمام القوى العظمى سوى دعوة حلفائها من أجل التوصل إلى حلول سياسية توافقية لأزمات المنطقة المستعصية، في سيناريو كان مستبعداً إلى أبعد الحدود، قبل عشر سنوات خلت، حينما كان يقتضي زمن الأحادية القطبية أن تأمر الولايات المتحدة الأمريكية فلا تجد أمامها، حتى من الدول الكبرى، سوى القبول والإذعان.

صحيح أن إسرائيل كانت تتمتع دائماً بنوع من القدرة على التأثير في السياسة الأمريكية بفضل اللوبي اليهودي، ولكن شخصاً مثل وزير الحرب الصهيوني موشي يعلون لم يكن ليجرؤ على أن يسفه ويسخر من الجهود الدبلوماسية لواشنطن الرامية إلى إيجاد حل ما تنتهي به المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، كما فعل مؤخراً، فإسرائيل مقتنعة الآن أكثر من أي وقت مضى، بأن أمنها المزعوم  يجعلها غير مجبرة على الرضوخ لكل ماتقوله الإدارة الأمريكية، فيما يتعلق بالملفين الفلسطيني، والنووي الإيراني.

وفي السياق نفسه، عبّرت السعودية عن رغبتها الواضحة في الدفاع عن مصالحها في المنطقة، بعيداً عن الوصاية الأمريكية، وأكدت لحلفائها التقليديين في واشنطن، بوضوح لا لبس فيه، أنها لم تعد تتفق مع المقاربة الأمريكية بشأن الملفات الإقليمية الكبرى، وفي مقدمها الملف النووي الإيراني، والأزمة السورية.

لقد تبيّن، بعد أيام على استبعاد إيران، أنّ ضغوطاً سعودية وفرنسية لعبت الدور الأبرز في إقناع بان كي مون بسحب الدعوة، وفي المعلومات، أيضاً، أنّه خلال اجتماع مجلس وزراء الخارجية الأوروبيين في 20 الجاري، نوقشت بعمق قضية دعوة إيران، وكان عدد من الدول الأوروبية مؤيداً للدعوة، على أساس أن إيران، وبعد اتفاقها النووي مع الغرب، يمكنها أن تلعب دوراً جيداً، وأنه ليس مناسباً استبعادها في هذه الفترة، لكن في نهاية الأمر، اتفق الأوروبيون على أن النقطة المركزية مع إيران هي الملف النووي، أما الملف السوري فهو من صلاحية روسيا، والولايات المتحدة الأمريكية.. لقد قدمت إيران بعض التنازلات التكتيكية فيما يتعلق بملفها النووي، فقد حاولت أن ترسل رسائل تؤكد من خلالها أن لها تطلعات ومطالب “مشروعة” تتعلق بمصالحها الاستراتيجية، وأمنها القومي، لا يمكنها أن تتخلى عنها، بل إن حلفاءها في لبنان، وفي مقدمهم حزب الله، يذهبون إلى أن مستقبل الصراع في سورية يتجاوز سقف الحسابات السياسية الظرفية بين الأطراف المختلفة، لأنه يتعلق بمسألة وجود وديمومة المقاومة، ومن ثم فإن أية محاولة لحل الأزمة في سورية لابد أن تلحظ ذلك للحفاظ على التوازن في الصراع مع العدو الصهيوني.

وفي كل الحالات فإن عودة النغمة الدبلوماسية السلمية، والهادئة للتحركات الغربية والأمريكية في الشرق الأوسط، تؤشّر لنهاية غوغائية دبلوماسية الحرب التي اختارتها واشنطن في عهد جورج بوش الابن، كما تفصح وتؤكد، في اللحظة نفسها، أن القوى الكبرى لم تعد تملك القدرة على التحرك بشكل منفرد من دون التنسيق مع القوى الإقليمية التي تمتلك القسم الأكبر من مفاتيح حل الصراع في المنطقة، وهو الأمر الذي فهمته الإدارة الأمريكية بشكل متأخر بعد إخفاقها المدوي في العراق، وأفغانستان، ويشدد على أهمية هذا الواقع الجديد بكل رهاناته الكبرى، والمصيرية، الكثير من المراقبين والمحللين، حيث إن طبيعة الصراعات الدولية الجديدة تحمل سمات غير مسبوقة، فقد باتت تستعصي على سيطرة القوى التقليدية الكبرى، وبالتالي فإن عدم الوعي بالطابع المعقَّد والمركب لهذه التطورات، يؤدي حتماً إلى توسيع رقعة الصراعات الحالية، ولابد في كل الأحوال من العودة إلى هذه القوى المحلية، والإقليمية من أجل التوصل إلى حلول سلمية، قابلة للتطبيق على أرض الواقع.

وفيما يتعلق بقدرة المجموعة الدولية على حل هذه الأزمات، من المؤكد أنه من دون البرازيل، والهند، ودول أخرى مؤثرة، فإن المجتمع الدولي الحالي ناقص، بل ومبتور، لأن إبعاد هذه القوى الصاعدة عن مجلس الأمن يضعف من قدرة هذا الأخير على التعبير بشكل كامل عن إرادة المجتمع الدولي برمته، خاصة أن الصراعات الحالية تتميز عن الصراعات السابقة بمفارقة شديدة الصعوبة، فهي من جهة تنغمس في طابعها المحلي، وتزداد استقلالاً عن القوى الكبرى، ولكنها، من جهة أخرى، أكثر “عولمة” من حيث تأثيراتها السلبية في السلم العالمي، الأمر الذي يتطلب تدعيم المجتمع الدولي المؤسسي بفاعلين مؤثرين جدد.

وعلى هذا فإن مستقبل الشرق الأوسط واستقراره يمرّ في المرحلة المقبلة، حتماً، عبر بوابة التوافق ما بين القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في المنطقة، ذلك أن التعنت لن يفيد، لأنه سيؤدي إلى مزيد من التفجر، وعدم الاستقرار الذي قد يدفع القوى الكبرى، ولاسيما الولايات المتحدة، للاقتناع أخيراً بأن سياسات “الفوضى الخلاقة”، وتفجير الصراعات الإثنية، والطائفية لابد أن تنتهي بصعود الإرهاب الذي يهدد هذه القوى الكبرى ذاتها، وما جرى في سورية من تعويم للجماعات الإرهابية خير مثال، إذ أدركت القوى الدولية، وبعض القوى الإقليمية أن خطر هذه التنظيمات سيطالها، ولعل هذا ما جعل هذه القوى تعي ضرورة البحث عن حل سياسي، ولابد أن تكون محاربة الإرهاب البند الأساسي فيه.

ريا خوري