مساحة حرة

سايكس – بيكو.. بين الانهيار والخارطة الجديدة للمنطقة

عذراً لهذه المقدمة كتبتها وأعلم أنها لا توافق رأي البعض لكنني أرى فيها واقعاً متجسداً في أمتنا العربية، وفي الجسد العربي لذلك أقول:

ما قسّم العرب وفتت أوطانهم بالأمس واليوم وحتى الغد، وقتل الشعور الوحدوي في عقولهم وأفئدتهم إلا اتفاقيات سايكس ـ بيكو السرية العربية التي تخفي عكس ما تظهر، والمتآمرة على أوطاننا وشعوبنا وليس سايكس بيكو الاستعمارية الغربية، فإبان الحكم الاستعماري الفرنسي والبريطاني في العشرينيات دير الزور السنية السورية، تجاوب معها الفرات الأوسط الشيعي العراقي، وتم في بغداد تبادل الخطب بين المساجد السنية والشيعية، وتآخى الهلال مع الصليب في مصر، وتوحدت مشاعر وأطياف وأعراق أهل السودان ودول شمال افريقيا، فلم نسمع قط ما خدش وحدتهم الوطنية أو ولاءهم لأوطانهم إبان حربهم ضد الاستعمار أوائل الستينيات وما قبلها، حتى رفض الأمير الأمازيغي عبدالكريم الخطابي عرش المغرب المقدم له من الفرنسيين وفضَّل عليه أن يكون لاجئا في مصر العربية.

وخطط الفرنسيون في العشرينيات لإقامة دولة للدروز وعينوا حاكمها سليم الأطرش، فأسقطها الثائر سلطان الأطرش بالتعاون مع عبدالرحمن الشهبندر، كما حاولوا إقامة دولة للعلويين دولة خاصة بهم في جبال العلويين، فأسقطها الثائر العربي صالح العلي بالتحالف مع إبراهيم هنانو، لذا فاتفاقية أو «شماعة» سايكس. بيكو الأجنبية والاستعمار الغربي استطاع أن يقسمنا جغرافياً، لكن تقسيمنا النفسي والوجداني نحن من كنا سبباً له للحفاظ على مصالحنا الضيقة، وكياناتنا المصطنعة.

وهناك الكثير من التوقعات والتحليلات التي تصدر في الدوائر الغربية، وبعد اطلاعها على مجريات الأحداث في المنطقة العربية، وما رسموا لها من فوضى تؤكد سقوط أو انهيار اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية، لكي يصار إلى رسم خارطة جديدة للمشرق العربي بالتعاون مع الجماعات الإرهابية التكفيرية، والدول الاستعمارية الجديدة، وللأسف الأدوات والمنفذون هم من أبناء جلدتنا (العرب والإسلام)، والدعم والتمويل من هذه الدول.

وما جرى على الحدود السورية العراقية ليس إلا الخطوة العملية الأولى في حتمية إنهاء الاتفاقية المشؤومة، وإعادة التقسيم من جديدة ولكن هذه المرة تحت أي اسم، (هل بين داعش والنصرة، أم بين السعودية والغرب، أم بين الظواهري وأمريكا،….الخ)

 ومن سيوقع على اتفاقية التفتيت، الأكثر خطورة على المنطقة العربية. وانهيار الدول المركزية لصالح مشاريع وهمية، بغياب مشروع عربي نهضوي يضع حدا للصراعات المزمنة العبثية، ويمهد لقيام أنظمة حكم متفاهمة مع مجتمعاتها؟

ومن هنا قال الكاتب البريطاني روبرت فيسك، إن تقسيم الشرق الأوسط القديم وفقًا لاتفاقية “سايكس بيكو” انتهى، متوقعًا أن يعاد تقسيم المنطقة من قبل “الجهاديين” الجدد الذين لا يعرفون حدود الدول التي وضعتها الاتفاقية.

وأشار فيسك، في مقالة بصحيفة “الإندبندنت” البريطانية، إلى أن الخلافة الإسلامية ولدت في العراق وسوريا، حتى لو بشكل مؤقت، على يد مقاتلي “تنظيم دولة الاسلام في العراق والشام” الذين لا يعرفون الحدود الجغرافية بين سورية والعراق والأردن ولبنان، ولا حتى حدود فلسطين التي أنشأتها بريطانيا وفرنسا.

وأوضح الكاتب البريطاني أن سيطرة داعش على غرب وشرق سورية دمرت اتفاقية ما بعد الحرب العالمية الأنجلو فرنسية (سايكس بيكو)، وهي الاتفاقية التي حيكت من قبل مارك سايكس وفرانسوا بيكو، وقسمت الشرق الأوسط بتحويل الدولة العثمانية القديمة إلى دويلات عربية يسيطر عليها الغرب.

ويري فيسك أن سيطرة داعش على مدينة الموصل العراقية التي سعت بريطانيا وفرنسا لنيل ثروتها النفطية، تؤكد انهيار التقسيم الذي فرضته معاهدة سايكس بيكو بعد الحرب العالمية الأولى، متسائلًا: “كيف باتت الموصل بعد الحرب العالمية الأولى تحت الانتداب الفرنسي وكيف عادت لاحقًا إلى الانتداب البريطاني، عندما أعطى وعد بلفور الحق في إقامة دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية بواسطة بريطانيا.

وأضاف فيسك أن: الخريطة الجديدة للشرق الأوسط تم إنشاؤها من قبل تنظيم القاعدة والنصرة وداعش وحلفائهم، منوهًا أن خطة هؤلاء الإرهابيين تعمل من الشرق إلى الغرب بالسيطرة على الفلوجة وتكريت والموصل والرقة، ومناطق واسعة في شرق سورية.

وتابع: “التكتيكات الجهادية تشير بقوة إلى أن الإرهابيين يريدون السيطرة على غرب بغداد مباشرة عبر الصحاري السورية والعراقية، لتشمل حمص وحماة وحلب في العراق”.وما يجري في العراق هو نتاج لفشل المشروع الأميركي ولمحاولة إعادة بناء الدولة وللتدخلات الإقليمية ،ولكن لا ينفي وجود مكون إرهابي متمثل في تنظيم “داعش”.

وما يلفت الأنظار تصريحات المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مايكل هايدن في المؤتمر السنوي السابع حول الإرهاب الذي نظمه معهد جيمس تاون، في 12 كانون الأول 2013، إذ توقع “نهاية سايكس بيكو وتفتت دول وجدت بشكل اصطناعي في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى”. وأضاف “أخشى بقوة تفتت الدول. هذا الأمر سوف يؤدي إلى ولادة منطقة جديدة دون حوكمة على تقاطع الحضارات”.

ليس بالضرورة أن يكرر التاريخ نفسه في المشرق أو أن نشهد “سايكس- بيكو” جديدة، نتيجة عدم حسم الأمور في التعددية القطبية عالميا واحتدام التنافس الإقليمي، وهذا يحد من إمكانية التغيير الجذري أو عقد الصفقات في ظل الصراع المفتوح متعدد الأطراف. هكذا تصبح أي فكرة لإعادة تركيب الإقليم وتغيير خارطة الدول أو تقسيمها، دعوة من أجل اندثار الكيانات وتفكك المجتمعات بما يخدم مصالح أطراف إقليمية غير عربية، ويسهل لعبة الأمم الخارجية في منطقة تتميز بموقعها الجيوسياسي وبثرواتها الهائلة.

لكن مقابل عدم تبلور صورة المشهد الإقليمي ومصير وحدة الكيانات في مستقبل منظور، نلحظ محاولات استمرار تحطيم الدول المركزية في المشرق والمعطوف على الصراع في سورية وحولها، وهو متصل بمصالح الدول الإقليمية، والغربية وغيرها.

كل ذلك يطرح تساؤلا حول السيناريو الأكثر ترجيحا بالنسبة إلى مستقبل نموذج الدولة القومية عبر نهايته أو تأقلمه وتحوله إلى دولة مختلطة تعددية لا مركزية، تسمح بتلبية مطالب المجموعات الإثنية، مما يتيح لاحقا تحديد السمات الرئيسية للنظام العربي بشكل فدرالي خاصة في المشرق.

كانت الخشية من التداعيات البعيدة لفكرة الفوضى الخلاقة والشرق الأوسط الكبير الديمقراطي على ضوء انهيار النظام الإقليمي العربي بعد سقوط بغداد وصعود القوى الإقليمية غير العربية أي وإيران وتركيا ووجود الكيان الصهيوني الغاصب، وتزامن ذلك مع تأجيج الصراع الداخلي على الأرض العربية وبدماء العرب وبيوتهم ودولهم.

وأخيراً لابد من القول: إن بقينا هكذا كعرب، غيبنا أنفسنا عن المسرح الدولي، وجعلنا من أنفسنا أدوات للغير، النهاية والسقوط حتمي للأمة، وإن بقينا في حالة ثبات من خلال غياب المشروع العربي النهضوي، تبقى البدائل جاهزة (فداعش، والنصرة، والقاعدة، والوهابية، والإخوان المسلمين … والجماعات ما تسمى الجهادية …. ؟) هم البدائل الظلامية لغياب الفكر العربي.

ورحم الله الشاعر جودت الركابي عندما أطلق صرخته للعرب :

      تنبهوا واستفيقوا أيُّها العربُ   *** فقد طمى الخطبُ حتى غاصتِ الرُّكبُ

منيف حميدوش