ثقافة وفن

«يُنصح بوجود الأهل عند متابعتها».. الدراما السورية

أحيانا كثيرة نضطر للانسحاب من مجلس العائلة تحت ضغط تلك المشاهد التلفزيونية الخارجة عن المألوف، والمتمردة على المنظومة الاجتماعية الحياتية الحاضنة للأسرة السورية بضوابطها الأخلاقية ونواظمها الاجتماعية المرتبطة بموروث كبير من العادات والتقاليد التي تغذي ثقافتنا التربوية، وتحدد مسارات حياتنا وعلاقتنا داخل المجتمع.

وما يثير التساؤلات ذلك التمرد الاجتماعي المفضوح الذي يشكل عنوانا بارزا للكثير المسلسلات الدرامية الرمضانية التي جنحت نحو المشاهد الفاقدة للاحتشام، والهابطة أخلاقيا، والمثيرة للغرائز، ضمن سيناريو تجاري يبيح المحرمات ويشوه الحياة الاجتماعية بطريقة فجة، وبشكل يسيء إلى المجتمع السوري، الذي تحاول كل شركة إنتاجية بهدفها التجاري الربحي النهش بتماسكه وترابطه، وفكفكة عراه الثقافية والأخلاقية، وإخراجه بهيئة الانحلال الاجتماعي التام عبر عرض العلاقات الساخنة، على حساب رسالتها الاجتماعية.. و بدلا من إبراز القيم النبيلة التي اعتادت على طرحها على جمهورها الرمضاني المكون من أفراد العائلة كباراً أو صغاراً، أوغلت في تحطيم القيم، وزعزعة منظومة الأخلاق، إلى الحد الذي بات على الأهل الجلوس أمام شاشات الدراما السورية، لا لمتابعتها بل لمراقبة أولادهم وهم يشاهدونها، فغالبية مشاهدي الدراما هم من الشباب والأطفال، و قد لا يميزون الهدف من عرض مشاهد الإيحاءات الجنسية والتدخين والعنف والقتل، لذا كان على كتاب الدراما أن يكونوا مسؤولين فيما يقدمون.

وطبعا، نحن لا ندّعي المثالية الاجتماعية، ونعترف بما تحمله هذه المسلسلات من بعض الوقائع والحقائق الاجتماعية الموجودة، ولكن ذلك لا يشرعن حالة الابتعاد والتجاهل التام لقضايا الأزمة وتداعياتها ومفرزاتها المختلفة درامياً، والاكتفاء بمعالجتها ببضعة أعمال تدور حول واقع الأزمة.. ومن ثم الغوص بجرأة في تناول قضايا اجتماعية بلغت مستويات عالية من الانحدار الأخلاقي في المجتمع، و هنا نتساءل: هل الجرأة في طرح مواضيع منحدرة أخلاقيا جاءت لإبراز قدرة الكتّاب على تناول المواضيع الجريئة بهامش الحرية الممنوح لهم، وهل الممثل السوري حريص على أخلاق مجتمعه، ولمن تتوجه الدراما في مواضيعها، ما هي الفوائد أو الأضرار المستقبلية لتناول مواضيع هابطة أخلاقيا في الدراما السورية؟؟؟؟.

ثقافة مباحة

بين مؤيد ومعارض وجدنا تفاوتا كبيرا في آراء الأهل لما تعرضه الدراما، ولكن الجميع اتفق بأن ثمة تأثيراً سلبياً، فالدراما حسب حمزة سلمان ” مدرس وأب لطفلين” تسهم في تغيير ثقافة الأسرة والمجتمع بأكمله، فهناك أعمال تلفزيونية ساهمت في إفساد سلوكيات الأبناء ونشر ثقافة الانحراف، والتعرف على الجرائم المختلفة وطريقة تنفيذها بدقة مثل السرقة والقتل والانحراف الأخلاقي، في المقابل كان لتيسير محمد “صيدلاني وأب لثلاث بنات” رأيه الخاص بأن وظيفة الفن هي أن يقرع آذاننا، ويفتح عيوننا لكثير من القضايا التي يعاني منها مجتمعنا، فلا نستطيع الاختباء خلف إصبعنا والقول إن الفساد والرشوة والانحلال الأخلاقي والعلاقات غير الشرعية كلها غير موجودة في مجتمعنا، بل هي موجودة وتعيش بيننا، وإن كانت مخفية، لذا لابد من طرحها من جهة و طرح الحلول من جهة ثانية.

رأي الشباب

لطلبة الجامعة رأيهم في الموضوع، فالمسلسلات السورية التي باتت ضيفا ثقيلا في رمضان على الاسرة السورية لما تعرضه من مشاهد منافية للأخلاق لدرجة قد تمنع الشباب من الجلوس مع الأهل لمتابعتها، فالأغلبية أجمعوا على أن مقولة “إذا كانت حجة صناع الدراما هي تعرية الواقع، فإن جميع الأديان تدعو لعدم المجاهرة بالمفاسد، حتى أن الفاحشة لا يجوز كشفها إلا في حالات خاصة” ، فكمال الضاهر ” طب أسنان” استنكر الحالات الاجتماعية التي تصورها الدراما السورية مؤخرا على أنها أمر عادي وموجودة، وتصوير مجتمعنا السوري على أنه مجتمع فاسد ومنحل أخلاقيا، والاعتزاز بالعلاقات الجنسية الإباحية والحمل الحرام و….، وكأن هذه الأمور أصبحت مدعاة للفخر، مبررين الخيانة الزوجية ونقلها كثقافة مباحة مقتبسين الأفكار الغربية وتقديمها للجمهور السوري لتصبح مقبولة يوما بعد يوم في عقولنا، وهذا أمر متنافٍ مع مجتمعنا وعاداتنا وتقاليدنا، لذا لابد من معالجة الخطر المرتقب قريبا والذي ستظهر نتائجه على جيلنا الحالي والقادم.. وأيده بالرأي إياس زيود “اعلام ” فمن واجب الدراما برأيه القيام بدور فعال من خلال تصحيح المفاهيم والمساهمة في عرض قضايا المجتمع بشكل عام والشباب خصوصا، مضيفا إن الدراما السورية ستواجه نفس مصير نظيرتها المصرية، فبدايات انهيار الدراما المصرية كانت بالأفلام والمسلسلات التي ناقشت الأمور الجنسية والانحلال الأخلاقي.

هدف تجاري

وحتى لا نكون حياديين في آرائنا، وحتى لا يقال اننا دائما في حالة هجوم شرس، ونقد سلبي للأعمال الدرامية، توجهنا بسؤالنا لأهل الفن لتبين لنا الفنانة تولاي هارون رأيها بقولها :”من المفترض بالدراما توعية الجيل القادم على حضارة الرقي وليس حضارة الفحش وانعدام الأخلاق ، فأنا كأم أولا، وكفنانة ثانيا، أخشى على أولادي من تلك الأعمال التي تحاول محاكاة الفن الغربي في كل تفاصيله”.. مضيفة :” إذا استمرت الدراما السورية بهذا الاتجاه فسوف نكون كأهالٍ مضطرين للمطالبة بوضع عمر محدد لكل مسلسل سوري، مع وضع تحذير لكل عمل لا يمكن للمراهقين مشاهدته مع أهلهم، والمسلسلات العربية عموما والسورية خصوصا لطالما رسخت الخنوع والصبر على الظلم والتخلف، وحان الوقت للمطالبة بتحويل الدراما إلى عنصر فعال في عرض النموذج الايجابي وإخراجها من حالة التوصيف السلبي للواقع دون تقديم حلول أو بدائل تذكر”.. واستغربت هارون من حالة تصوير المرأة السورية في الأعمال الدرامية وكأنها امرأة مبتذلة، وهي على عكس ذلك، فالمرأة السورية في قمة الطهارة، وهي امرأة قدمت الولد والأخ والزوج ليكون شهيداً في هذه الأزمة، فهي امرأة عظيمة لا مبتذلة، إذاً نحن لسنا في مشكلة وجود هذه المفاسد، وإنما في جعلها محور الأعمال الدرامية، وطرحها بطريقة تسهل تقبلها وشيوعها.

دراما متنوعة

في المقابل وجد الكاتب مروان قاووق أن الدراما السورية متنوعة بشكل عام، وتطرح مواضيع مأخوذة من المجتمع السوري غير مستقاة من مجتمعات أخرى، ولكن للأسف إن بعض الدراما السورية أصبحت تجارية هدفها الربح فقط وليس إعطاء رسالة، لتنتهي معظم الأعمال السورية دون توجيه للفرد، فمثلا مسلسل “صرخة روح” هو عبارة عن أشكال وصور متنوعة للخيانة في محاولة من الكاتب لرصدها وعرضها دون طرح الأسباب الرئيسية والمحرضة للخيانة، والمطلوب حاليا من الدراما السورية هو تناول الأزمة وليس بالضرورة بشكل مباشر بل يكفي التطرق لمواضيع وحكايا فساد وفقر عاشها لمواطن السوري خلال الأزمة، لنعود بدرامانا للتألق كالسابق، واختيار مواضيع تفيد الإنسان العربي والسوري، لا الهبوط بها إلى القاع، ومحاكاة قصص ومواضيع مستقاة من مجتمعات غربية، وللأسف أستطيع الجزم بأن معظم الأعمال الحالية تجارية مالية بحتة، مع إدراج نجوم كبار فيها، والهدف الأساسي أن يباع هذا العمل لا تقديم رسالة.

كارثة أخلاقية

المخرج غازي إبراهيم، الذي تفقد عامل الأمان الاجتماعي في الدراما السورية، واصفا هذه الدراما بـ” الزعرنة”، مضيفا أن الدراما السورية في السنوات الأخيرة أثبتت فشلها وحاجتها لإعادة تأهيل من جديد، فكل ما يتعلق بعاداتنا وتقاليدنا وقيم مجتمعنا التي كنا نفخر بها بدرامانا باتت اليوم مفقودة، وقال:”كمخرج لا أستطيع الخروج اليوم وترك أبنائي يتابعون مسلسلا سوريا، فبعد أن كنا نفتخر بهذه الدراما أفقنا اليوم على شعور بالخجل من بعضنا عند مشاهدة هذه القضايا المستوردة في درامانا، فالحب مثلا يتم تسويقه في درامانا بشيء من الفحش والفجور، وبرأيي هذه النقلة النوعية في مستوى الهبوط النصي والمعالجة هي أمور مالية تجارية بحتة، فالممول يأتي بماله ويقول نريد الموضوع الفلاني والأفكار التالية وتتم صناعة العمل بناء على مزاجه الخاص، وهنا تكمن المشكلة الكبرى فعندما تباح هذه المشاهد والقضايا سيسعى المواطن لتكريسها في حياته اليومية، وجعلها أمرا واقعا حتى إن لم تكن موجودة، وهذا ما يقودنا إلى كارثة أخلاقية.. ويبقى علينا أن نسأل عن غياب دور الرقابة التي منعت الكثير من الأعمال هذا الموسم من العرض على الشاشات، ولكن تم تجاوز هذا المنع وعرضها على قنواتنا…كيف، ولماذا؟ …لا أحد يجيب!”..

محاكاة تركية

وبلهجة مستنكرة لواقع الدراما الحالي قال مدير الإنتاج كمال شنان: ” ان هذه المهزلة في درامانا ما هي إلا تقليد لأفكار وقيم وعادات الدراما التركية التي روجنا لها من خلال دبلجة العديد من الأعمال التركية من قبل الفنانين السوريين ، ولم نكتف بذلك بل تعدينا الأمر لنقتبس منها أفكارهم وقضايا الحب والخيانة والانحلال الأخلاقي وتطبيقها في مسلسلاتنا وهذا هو الخطأ بعينه، فقيم الغرب لا يمكن تطبيقها في مجتمعنا، وبيئة الأتراك غير بيئتنا، وعاداتهم وقيمهم تختلف عن عاداتنا وقيمنا، وإذا وجدت هذه الظاهرة يجب ألا تستمر، فهي مجرد ظاهرة والظاهرة لا يجوز تعميمها، وما يحصل اليوم في صناعة الدراما هو تسويق وتجارة والتاجر له الحق في الربح ولكن يجب عليه المحافظة على المستوى الأخلاقي في المجتمع وعدم هبوط المستوى الفني، فالملابس والمظاهر والكلام البذيء الذي تعرضه هذه المسلسلات ليست محاكاة للواقع بل محاولة لجر هذا الواقع للهاوية”.

رقابة ونقابة

المخرج نبيل ع شمس وجد الحل في عودة الدراما إلى قيمها الصحيحة في إنتاج الدولة، وسبب غياب إنتاج الدولة للدراما يكمن في القوانين الموجودة، لذا لابد من إعادة النظر في هذه القوانين، فالقانون الذي صدر بإلغاء مديرية الإنتاج التلفزيوني التي تأسست منذ تأسيس الدراما في سورية كان مجحفا جدا بحق الدراما السورية، فهذه المديرية هي التي أسست للدراما السورية الحاملة للقيم النبيلة بغض النظر عن الربح والخسارة، وتدخلنا كثيرا ككتاب ومنتجين لإعادة عمل المديرية حتى استطعنا ذلك وعادت للعمل ولكن بشكل خجول..

في المقابل ألقى مدير الإنتاج أشرف غيبور اللوم على كاهل الرقابة ونقابة الفنانين، فكلاهما للأسف لم يأخذ دوره كما يجب للتعرض الدراما السورية إلى انتهازية خطيرة ، وأي عمل هابط يسيء لمجتمعنا ولأجيالنا يجب منعه من العرض وأخذ موقف صلب من هذه القضايا المطروحة، ولكن ما يحدث العكس تماما ليصبح استغلال السقوط الأخلاقي في الأعمال الدرامية أحد وسائل جذب المشاهد وتسويق العمل في الخارج، وأولا وأخيرا الدراما ما هي إلا رسالة إعلامية يجب مراقبتها والأخذ بيدها لتسير بالمجتمع للأمام، لا قيادتها لتصبح أكبر خطر يهدد هذا المجتمع.

عقول مؤمنة

عبد الرزاق المؤنس معاون وزير الأوقاف سابقا تحدث لنا عن رأي الدين بمعالجة الدراما السورية لقضايا المجتمع، فمن وجهة نظر المؤنس ان الدراما بشكل خاص لم تدخل إلى عمق معالجة الأزمة بل عالجت قضايا شكلية ترويجية معتمدة كثيرا على الحضور الأنثوي اللافت للنظر، وكأن الدراما السورية اليوم أصبحت عبارة عن جاذبيات لعرض النساء وألبسة لا تتفق مع أدبيات مجتمعنا السوري الذي يحفظ كثيرا من الحشمة والمعايير الذوقية التي لا تتجاوز حدود جرح النوايا والمشاعر، ولعل أسوأ ما في الدراما أنها لا تعالج المواضيع التي تطرحها، بل تكتفي فقط بعرضها وكأنها تبسط وتحلل هذه المواضيع بشكل واقعي مألوف، كأنها طبيعة موجودة بمجتمعنا، مما يقرب ويهون ويغري على من يتحفظ من تجاوز حدود حقوق الآخرين أن ينخرط في هذا المجتمع، والمطلوب هنا هو المعالجة ” كالتجارة بالقيم والأنوثة..”، والمطلوب أيضا أن تكون وراء الدراما عقول مؤمنة وطنية مفكرة تعرض عليها النصوص لإضافة معالجات وحلول، والمسألة تكمن هنا بأن الدراما يجب أن تلاصق واقع الناس، و بنفس الوقت يجب أن يرافقها بعد أخلاقي وهنا المفترق الحساس، فبعض الناس يرون أن الدراما يجب أن تقدم  بشكل مفتوح ومطلق بدعوى أن هناك مشكلة نقدمها للناس كونها واقعا والكل يعرفها فلم النفاق، وبرأيي ان هذا الكلام جزء منه صحيح، ولكن هناك مسؤولية ليست دينية حرفياً بل أخلاقية عامة.. وتابع المؤنس “أكثر المجتمعات تدينا أو بعداً عن الدين يبقى فيها حد أخلاقي لا يمكن تجاوزه، فلا يعرض مثلاً مسلسل يتحدث عن زنا محارم والأطفال يشاهدون التلفاز، وخاصة إن لم يتضمن العمل أخلاقاً، بل رسالة ايجابية، عندها سيكون هناك نوع من تكريس الفساد في المجتمع، وأنا ارفضه بشكل أخلاقي قبل أن ارفضه من منطلق ديني”.

أزمة أخلاقية

نعتقد أن دور الدراما هو مساعدتنا في رؤية حياتنا اليومية من عدة زوايا و بطريقة متزنة وواعية بعيدا عن كوننا أطرافا فيها، أما تذكير الناس بأشياء، أو الترويج لمنتجات بهدف مناقشتها فهو دور برامج خاصة وليس دور الدراما التلفزيونية و المسلسلات، وهنا مشكلتنا تكمن في السؤال التالي: هل بالفعل نحن نعاني من أزمة أخلاقية إلى تلك الدرجة من السوء التي تطرحها الدراما السورية، وما هو دور الفن الفعلي في الارتقاء الأخلاقي؟.. فوظيفة الفن برأي الدكتورة رشا شعبان” علم اجتماع” ليست عكس صورة الواقع وانحطاطه فقط، بل الارتقاء بهذا الواقع وبالتالي لا يستوي أن نطرح موضوع الخيانة بهذه الغزارة وكأن الوضع كله فحش أخلاقي، والصحيح هو أن مجتمعنا يحوي السلبي والايجابي لذا من واجب الدراما جعل المشاهد السوري أمام حالة مقارنة بين ما هو موجود فعلا وبين ما يطرح على الشاشة ليقارن ويحلل ويتبنى ما هو ايجابي لتشكيل منظومة قيم أخلاقية.. وأضافت شعبان:”إن القيم الخيرة هي جميلة بالمطلق، والقيم الشريرة هي قبح بالمطلق، فهل من الطبيعي أن نجلس ونشاهد القبح بشكل مجرد دون معالجته في الدراما؟.. نحن نريد طرح الواقع ولا نريد الابتعاد عنه، ولكن في الوقت نفسه يجب أن نستشرف المستقبل، لأن مهمة الفن ليست عكس الواقع بل تربوية وتثقيفية؟.

البعث- ميس بركات