ثقافة وفن

مسرحيّة إكليل الدّم … الأخلاق هي ما ينقذ الواقع والمستقبل

“إذا أطلقت نيران مسدّسك على الماضي، فإنّ المستقبل سيطلق نيران مسدّسه عليك”… كانت هذه كلمة المخرج “زيناتي قدسيّة” المأخوذة من الأديب الداغستاني “رسول حمزاتوف” … ويلتقي طرفان ثُنوياً في بداية ونهاية العرض، لكن يبدو اللقاء هناك ليس كقانونٍ ثُنويّ كونيّ، بل يفسّر ذاته بالتآمر. يبدو أنّ “إكليل الدّم” هو إكليل صراعٍ بين قيم إنسانيّة أصيلة وبين بدائل وجدتها صيغ التخلف، وعادات كرستها أدمغة غير ناضجة، وهذا ببساطة ما خطّته مشاهد العرض المسرحي “إكليل الدّم” بتوقيع الفنان “زيناتي قدّسيّة” نصّاً وإخراجاً.

  البداية حملت ترقباً مألوفاً لانتظار ما يقدّمه العرض، فخلفيّه المَشاهد اعتمدت موسيقى مريحة لافتةً للانتباه، ولكن من دون توتر، فينطلق بعدها المشهد الأوّل معنوناً بكلمة ـ أُحبّك ـ من خلال الاتصال الهاتفي الذي يجريه الفنان “قصيّ قدسيّة”. ويبدو أنّ للغة الحبّ دورها البارز في صياغة النصّ بالمجمل، فاجتماع اللصوص أو المجموعة المنوّعة هو في نفس الوقت لأهدافٍ متقاربةٍ بين كلّ فردٍ منها، ولكن في النهاية المحبّة هي التي قاربتهم، فهؤلاء لديهم هموم مشتركة قدّموها بصورة استعراضيّة ناجحة، وبطريقة مسرحيّة ضمن المسرحيّة كفكرة مستوحاة من المسرح الإيطالي الحديث، فكانت بطولة جماعية بإيقاعٍ سريع لا يترك للشرود مكاناً بل ترقباً دائم.

من ناحية أخرى نجح العرض في لفت انتباه الحضور على الرغم من حبكه بلغة عربية فصحى متينة، فقد مزج زيناتي قدسيّة مفاصل العرض ببعض الكلمات من اللغة العاميّة المحكيّة، إضافة لمفاجئة المتلقي بكلمات وجمل باللغة الإنكليزية في مواقع لا يمكن توقّعها، فالملك الذي ينطق بالعدالة ” خلدون قاروط” فجأة يتحدث بالإنكليزية، ليرد عليه المُدّعي اللص “زهير البقاعي” بلفظة واحدة من الإنكليزية ويتابعان بالعربية، فهذا مثال يدلّ على إيقاع سريع للفت انتباه الجمهور حتى لا يقع في شباك الملل، وقد نجح في ما رمى.

            في العرض لوحات راقصة بين حركات البالية وموسيقى شرقيّة زيّنت العرض بجماليّة مضافة لقيّمة العرض، فكانت بين الراحة للمتلقي وتشجيع لربط خيال المجموعة على المسرح، وما يفكر به أحدهم، فيسرح الجميع معاً ويترنمون، وقد قدّم الرقصات كلّ من “جمال التركماني” و “مروى العيد”، أمّا ديكور المسرح فجاء بسيطاً يتناغم وحالة الفقر المادي والذهني التي ارتحل إليها هؤلاء جميعاً، فكان الخيال هو أهم زينة ملوّنة لهم يصنعونها بأصواتهم وتأوهاتهم المتكررة، لإيضاح الفرق بين واقع مرير وخيال خصب وفير.

حمل العرض الكثير من الحضّ والتشديد على القيمة والفضيلة فمن فكرة احتقار الذات إلى العدالة إلى البوح إلى الأصالة إلى العلم إلى الحبّ إلى الغربة …إلخ ليأتي دور الضرير المتبصّر “زيناتي قدسيّة” بين مفصل وآخر فيقطع بداية المسرح ونهايته بكلماتٍ تحمل العظة للبشر وفيها طرقٌ على وتر إيقاظ الضمير الداخلي، فمرّة يستخدم كلمة الويل، ومرّة يزيّن كلماته بالدعوى للسلام وهجر العزلة عن مركب التطور والحضارة، وقد رافق خلفيّة المشهد فضاء يدلّ على روحانيّة الكلام وبعده الإنساني، مع موسيقا هادئة بصبغة روحيّة. فتقف المجموعة صامتة وتتعلّق أنظارها بما يقوله الضرير المتبصّر ريثما يمرّ، وكأنّهم يفهمون ولا يفهمون.

106684

 في مشاهد المسرحيّة الأخيرة يبقى للرأس المقطوع رمزه الكبير وتقف المجموعة بين كفتي ميزان يتأهب بعضها للانتقال نحو الكفة الأخرى، فواحدة جامدة تتمسك بالماضي وخائفة من موكب التطور والانطلاق وواحدة واثقة بأن الحياة للمستقبل والعلم والمحبة، فتنطلق نظرات التحدي بين الطرفين ويبقى الرأس مؤشراً في الوسط، ويبدو أنّ الخلاصة والحلّ الذي وصلت إليه المجموعة والذي هو حلّ لواقع بتنا جزء لا يتجزأ منه، شئنا أمّ أبينا، وهو أنه لا ينقذ واقعنا إلا الأخلاق والارتقاء بها.

يذكر أنّ مسرحيّة إكليل الدّم تُقدّم على خشبة مسرح الحمراء في دمشق يومياً الساعة الخامسة مساءً، والممثلون هم:” أسامة تيناوي، قصي قدسية، رائد مشرف، أسامة جنيد، خلدون قاروط، فادي الحموي، زهير البقاعي، سامر الجندي، جمال التركماني، مروى العيد، وزيناتي قدسية”. أمّا الفنيوون فهم:”سهير برهوم، زهير العربي، نصر سفر، بسام حميدي، هشام عرابي، ريما عرابي، سامي حريب، تيسير النمر، عماد حنوش، إياد عبد المجيد، يوسف البدوي، عماد سعيدان، رامي السمان، ونوفل حسين”.

البعث ميديا ـ عامر فؤاد عامر