مساحة حرة

لِصبر كيري حدود؟؟

لا شك بأن التحولات الاستراتيجية والفكرية والبنوية التي حصلت في منطقة الشرق الأوسط والعالم خلال السنوات القليلة الماضية تؤكد بأن الحاضر والمستقبل لا يُمكن أن يشبه الماضي القريب أو البعيد بصيغته الايديولجية أو الجيوسياسية وبالطبع الاقتصادية كذلك، وهذا ينطبق على الواقع السوري الذي كان محور تلك التحولات وحاملها الأساسي .. صحيح لقد تمكنت الدولة السورية بفضل حكمة قائدها الشجاع الرئيس بشار الأسد وبطولات وتضحيات جيشها الوطني الباسل وقوات الدفاع الوطني البطلة بمشاركة حلفاء الدم، وصمود وصبر شعبها الأبي المتمسك بتاريخه المعبر عن حضارة عمرها من عمر التاريخ البشري، حيث تمكنت الدولة السورية بمؤسساتها المختلفة من تجاوز عتبة الانهيار والضياع الذي أرادته لها مجموعة الأعداء التي فاقت نصف دول العالم بقيادة أمريكية وتحت غطاء “الربيع الصهيوني” الذي اجتاح المنطقة وأحدث هزةً حقيقية في الخارطة الجيوسياسية والديموغرافية، وقلب الكثير من المفاهيم الثقافية والأخلاقية لصالح الفكر الرجعي العميل، الذي سعى جاهداً لضرب عرى الفكر القومي العروبي بالصميم، والاستخفاف بالتراث العربي المشترك الذي ميَّز الجغرافية العربية خلال العصور الماضية.

وتمكنت المؤامرة المتعددة الأبعاد من إظهار العروبة على أنها مجرد أحلام وتطلعات خيالية بعيدة عن الواقع  تبنتها أحزاب ومجموعات مستنسخة عن تجارب خارجية أثبتت فشلها في منشئها، وقصدت دول الغرب الاستعماري وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية من كل هذه الحملة الترويجية المخادعة خدمةً المشروع التقسيمي الجديد الذي يهدف إلى شرزمة المنطقة العربية وتمزيقها إلى كنتونات طائفية وعرقية غير منسجمة تبقى فتيلا جاهزا لاشعال حروب عبثية فيما بينها تُديرها الاستخبارات الأمريكية وحلفاؤها في الغرب بأدوات محلية وإقليمية عميلة، وهذا يفرض واقعا جيوسياسيا غير مستقر في المنطقة كلها .

تفهمت القيادة السورية وحلفاؤها في محور المقاومة وأصدقاؤهم من دول العالم وعلى رأسهم روسيا الاتحادية والصين الشعبية وتنبهوا لحجم المؤامرة الكونية على المنطقة انطلاقاً من محاولة السيطرة على سورية، وحسبوا بدقة مدى تأثيرها على مستقبل العالم واستقراره بما في ذلك الدول الكبرى كالصين وروسيا، حيث بدأت الدول الحليفة لسورية اعتماد إسترتيجية المواجهة المنظمة لهذه الحرب الاستعمارية الجديدة ابتداءً من مجلس الأمن الدولي باستخدام “الفيتو” الروسي الصيني المشترك للحيلولة دون شرعنة الارهاب والفوضى في سورية ومنها إلى العالم بأسره، وقد تمكنت روسيا الاتحادية وحلفاؤها من مساندة سورية في كافة المجالات بما فيها العسكرية حيث استطاعت سورية بالرغم كل ما أصابها من تدمير وتخريب وسفك دماء بريئة الصمود في وجه هذه الحرب العاتية، وتلقت الصدمة بمرونة سياسية عالية، وتغلبت على الواقع المؤلم من خلال الدور الروسي الذي فرض حالة من الواقعية على قرارات مجلس الأمن الدولي التي كان أهمها القرار 2253 الذي أكدت بنوده على وقف دعم الإرهاب وتجفيف مصادره وتحميل الدول والمجموعات الداعمة للتنظيمات الإرهابية مسؤولية مخالفتها لهذا القرار وعلى رأس هؤلاء الولايات المتحدة وحلفاؤها الإقليميون وخاصة السعودية وتركيا، والقرار 2254 الذي اعترف بوحدة سورية أرضا وشعباً وجيشاً واستقلالها وسيادتها على كامل أراضيها وعلمانيتها وحق الشعب السوري في اختيار نظامه وقيادته التي يُريدها بالطرق الديمقراطية السلمية .

بالرغم من استخدام الحليف الروسي أقصى درجات المرونة والحنكة السياسية في الحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية التي اتصف مسؤولوها بعدم المصداقية، ورغم مطالبة روسيا المتكررة للأمريكان بضرورة فصل تنظيماتهم الإرهابية “المعتدلة” الموالية لهم عن التنظيمات الإرهابية المصنفة دولياً وخاصة جبهة النصرة فرع تنظيم القاعدة الإرهابي في سورية  وداعش، وكانت في كل مرة تعترف الإدارة الأمريكية بلسان متحدثيها عدم قدرتها على فصل أدواتها عن جبهة النصرة  وداعش، لان الجميع ينتهج عقيدة ايديولوجية تكفيرية موحدة!

ليُطالعنا اليوم وزير خارجية الولايات الأمريكية “جون كيري” بأنه لصبر أمريكا حدود تجاه السياسية الروسية بموجب رده على العرض الذي قدمه وزير الخارجية الروسي ” سيرجي لافروف ” أمام مجلس الدوما الروسي مبيناً فيه الدور الروسي المشرِّف في منع تحويل منطقة الشرق الأوسط إلى قواعد غربية وأمريكية تهدف من خلالها السيطرة على العالم ومقدراته بما يُخالف القانون الدولي ومصالح شعوب المنطقة والعالم.

حقيقة كما يقول المثل الشعبي: “اللي استحوا ماتوا”، في الوقت الذي بشرتنا فيه الإدارة الأمريكية بان الحرب على سورية ستستمر لثلاثة عقود وهذا منذ الأيام الأولى للأزمة السورية على لسان رئيسها، وتسربت وثائق عديدة عن الدور الأمريكي المباشر وغير المباشر المشبوه وتورطها  بإنشاء ودعم التنظيمات الإرهابية بكل ألوانها عبر عملائها الإقليميين، ورغم كل الجهود التي بذلتها روسيا لاستيعاب الكذب والتسويف والمماطلة الأمريكية المستمرة، نجد ان الإدارة الأمريكية هي التي أفقدت روسيا والعالم صبرهم نتيجة الكذب والتضليل وعدم الإلتزام بالعهود أمام الشريك الروسي، و كان آخرها ما صدر عن مستشارة الأمن القومي الأمريكية : ” بانه لا حل للأزمة السورية قبل انتهاء ولاية الرئيس أوباما ” رغم عشرات الجولات من المباحثات والاتفاقيات!

وفي آخر السيناريوهات إرسال كل من بريطانيا وفرنسا وايطاليا وألمانيا وحدات عسكرية إلى سورية في مهمة مشؤومة وملغومة ومدانة لتحقيق أهداف خبيثة غير معلنة، وهذا كله يفرض على الحكومة السورية وقيادتها السياسية ضرورة التعامل مع المتغيرات الجديدة بواقعية وبراغماتية عالية، وحشد كل الطاقات المتوفره لحسم المعركة بأقصر وقت ممكن وإضاعة الحلم الصهيوني – الغربي في تقسيم سورية، سيما وان قواتنا المسلحة الباسلة تُحقق انجازات عظيمة على كافة الجبهات، وإن ما سمي بوقف الاعمال القتالية ما هي إلى خدعة عالمية لوقف تقدم الجيش العربي السوري في محاولة لمنع هزيمة الإرهاب ومشغليه على الأراضي السورية.

إذا كانت الإدارة الأمريكية تعتقد بأنها قادرة على التلاعب بمصائر الشعوب إلى مالا نهاية فهي واهمة، لأنها أصبحت مكشوفة على الملأ وإن دورها المتفرد في القرارات الدولية قد انتهى إلى غير رجعة سواء قبلت بذلك أم رفضت، صحيح إنها  تستطيع تخريب العالم وتدميره بالتآمر والحروب العبثية، لكنها لا تستطيع القضاء على إرادة الشعوب بالمقاومة ومواجهة الاستراتيجية الامريكية التخريبية بعد كل هذه التغيرات.

ونحن في سورية سنتجاوز ما خربته أمريكا وعملاؤها من خلال إعادة النهوض بمؤسسات الدولة المختلفة من جديد وفق أسس وقواعد ثابتة بالتوازي مع إنجازات الجيش العربي السوري وحلفائه على الأرض تساعد الشعب السوري على التخلص من عواطفه المشوهة التي تلوثت بأفكار متخلفة ومتطرفة وانعزالية فرضتها التنظيمات الإرهابية، حيث تقوم مؤسسات الدولة بمهامها الأساسية وفي مقدمتها العمل بجهود عالية وبجدية حقيقية لتجاوز تلك العوائق التي تقف في وجه تحقيق المصالحات الوطنية التي تؤدي إلى ردم الفجوات وإعادة اللحمة الوطنية على أسس وطنية راسخة ..

محمد عبد الكريم مصطفى