line1مساحة حرة

مصر العروبة: الثقة والأمل

ليس التأكيد اليوم على أهميّة دور جمهورية مصر العربية في تجاوز التحديات والمخاطر الوطنيّة والعروبيّة نابعاً فقط من ضرورة شكرها حكومة وشعباً وجيشاً على مضيّها قدماً في بلورة موقف عربي ناضج مقابل هذا الانحلال العربي من جهة، والاستبداد الخليجي من جهة ثانية. وتحديداً جرّاء عدد من المواقف التي تبنّتها الدبلوماسية المصرية تجاه العدوان، بل المؤامرة على سورية.

فقد كان التصويت المصري في مجلس الأمن إلى جانب المشروع الروسي، بالدرجة الأولى، صدى لموقف الشارع المصري الذي يعرف القيمة التاريخيّة للتنسيق بين البلدين والشعبين الشقيقين في سورية ومصر، ويعرف بالمقابل مخاطر سياسات البترودولار على الشعب والأوطان والأمّة.

وقد أتى هذا التصويت في سياق جملة من الحقائق  السياسيّة المصريّة العروبيّة الآخذة في التبلور، والنابعة من إدراك مخاطر مطامح آل سعود في الاستبداد بالواقع العربي والإسلامي من خلال ثنائية النفط والوهابيّة، هذه الثنائية التي أنتجت التطرّف والإرهاب العابر والجوّال.

< والحقيقة الأولى: إن سياسة العصا والجزرة البغيضة التي يحلم آل سعود وآل ثاني في فرضها على الشعوب العربية والإسلامية بدأت تذروها الرياح، وليس الشعب العربي على امتداد ساحات الوطن والأمة بعيداً عن إدراك هذه الحقيقة. وإذا كان هذا الشعب يئنُّ تحت وطأة ما آل إليه واقع الدولة الوطنية العربية بعد حركة التحرر والاستقلال العربية، فإن هذا الشعب يختزن قوّة كامنة لا ترى أبداً في سياسات البترودولار مخرجاً لأزمته، بل ترى فيها الأزمة ذاتها التي تتجلى أكثر ما تتجلى اليوم في حكم آل سعود.

فأشقاؤنا في مصر يعرفون أن مفهوم الدولة في مصر سابق ومتقدّم على ما سواه في البلدان العربية والآسيوية والأفريقية، ومتأصّل منذ محمد علي باشا، ويعرفون ونعرف جميعهاً معهم ريادة مصر في الفنون والآداب والعلوم الاجتماعيّة والأساسيّة والدينيّة، وفي النهضة العربية الحديثة، ويعرفون القيمة العالية لثورة 23 تموز 1952، وللتأميم وصدّ عدوان 1956… إلخ ويعرفون عراقة الأزهر الشريف الذي قضَّ مضاجع الوهابية مؤخراً بمجرد المشاركة في المؤتمر الإسلامي في غروزني.

إذن، من الطبيعي، ومن تحصيل الحاصل أن يراهن الناس على مصر، وأن يثقوا بها ويعقدوا الأمل عليها، وأن يدفعهم إلى الابتسام بل السخرية حين يحاول ابن سعود أو ابن ثاني نقدها أو تحدّيها، هذا على وجه العموم، وعلى وجه الخصوص فيحقّ لنا في الجمهوريّة العربيّة السوريّة “الإقليم الشمالي” أن نثق وأن نأمل بالمزيد، بل أن نطالب بدعم مواجهتنا العدوان على شعبنا ودولتنا الوطنية، وألّا نكتفي بإحياء ذكرى وحدة 1958، وتشرين 1973 .

كما يحقّ لنا أن نفخر بالموقف التاريخي للزعيم الخالد جمال عبد الناصر من تيجان الملوك، الذي لم يتناقض مع التنمية بل عزز التنمية والسيادة.

فقد بادر نظام آل سعود قبل تصويت مصر إلى طرح إشكالية العمالة المصريّة في السعوديّة، وأوقف أمس تصدير النفط إلى مصر، وأخلّ باتفاقات في هذا المجال. وبرّر النظام ذلك بترشيد النفقات نافياً ردّة الفعل، لكن من سمع فحيحَ المعلمي ممثل آل سعود في الأمم المتحدة يوم التصويت يدرك خلفية الموقف.

< أما الحقيقة الثانية: فمصرُ لا تحتاج السعودية، بل السعودية اليوم هي أحوج ما تكون إلى مصر وقد تورّطت بوهّابيتها وبدعمها للإرهاب حيث تنتشر التقارير في الغرب، بل في أربع جهات الأرض مؤكّدة أن المملكة متهالكة اليوم، وأنها مسؤولة عن نشر التطرّف العابر، ودعم الإرهاب الجوّال، بينما مصر ومعها سورية تواجهان ذلك وتجابهانه.

وعلى سبيل المثال وبينما كان مندوب بريطانيا في جلسة مجلس الأمن الأخيرة محتقناً ومنفلتاً في آن واحد، كان البريطانيون يحمّلون السعودية مسؤولية تجوال 500 إرهابي بريطاني من داعش وحدها في شوارع بريطانيا.

وبالمقابل، فالنخبُ الأكاديميّة والسياسيّة في مصر تعرف أكثر من غيرها أن حلّ التحديات المعيشية لا يكون بالرهان على السعوديّة، كما تعرف أنّ التنمية المستدامة هي التنمية الذاتية المستقلّة عن التبعيّة، وأنّ مواجهة هذه المشكلة لا تنجح بالاتكال على السعودية ولا على أصدقائها في أمريكا والكيان، فالشعب المصري عريق وجبّار، كما تعرف أن انزياح ثقل مصر في الواقع العربي والإقليمي الراهن قابله إحلالٌ بغيضٌ للسعوديّة وتركيّا. فمصر مع ابراهيم باشا دكّت الوهابيّة وأرعبت العثمانيّة… وهي اليوم أقدر على الحضور والفعل.

< والحقيقة الثالثة: لا يزال الشارع العربي يرى في مصر شعباً ودولة وقيادة منطلق العمل العربي المشترك بمؤسّساته وكوادره وتوجّهاته، ويرى فيها أيضاً أساس العمل لضمان الأمن القومي العربي… ومواجهة ما يتهدّده من مخاطر صهيوأطلسيّة رجعيّة عربيّة.

< والحقيقة الرابعة: لا شكَّ في أنَّ مشروع بيريز – رايس في الشرق الأوسط الجديد أعقبه مباشرة دعم من نظرية الفوضى الخلّاقة… وكانت النتائج الكارثية التي نرزح جميعـاً تحت وطأتها.

لكنْ، بالمقابل اليوم هناك كسرٌ للقطبية الأحادية، وتحدٍّ متعدد الأطراف لها وهناك اليوم عددٌ من الاستراتيجيين ومراكز الأبحاث في العالم يرون أنَّ الشعوب قادرة بصمودها على كسر إرادة وإدارة أصحاب الخرائط الجيو سياسية الجديدة. فهذا دومينيك دوفيلبان رئيس وزراء فرنسا الأسبق يقول في ندوة “تمزيق الخارطة” والتي أدارتها مجلة هاربر مؤخراً في نيويورك: “إنَّنا في نظام دولي ذي طبيعة انتقالية، والخريطة ليست واضحة تماماً، وإنَّنا نشهد عاملين أساسيين في المجتمع الدولي المعاصر أولهما: بداية التعدديّة القطبيّة وتصاعد نفوذ الصين وروسيا، وثانيهما: الهيمنة المتناقضة للولايات المتحدة بين القوّة الناعمة والقوّة الصلبة التي خلقت كثيراً من الشك والريبة”. -الندوة في موقع NCRO-.

إذن، أمريكا نفسها لم يعد يُراهن عليها خاصة وسط مشهد انتخابي فضائحي، فكيف بالسعودية ومشاكل البيعة وغيرها؟.

هذه الحقائق، وغيرها كثير، تضفي قيماً جديدة على الدور التاريخي لصمود سورية شعباً وجيشاً وقيادة. وهذا رأي يتسع صداه عالمياً… فأهلاً وشكراً يا مصر العروبة.

د. عبد اللطيف عمران