ثقافة وفن

حكايات سوريّة..الغروب الدامي

لم تكن “أم سعيد” واثقة وهي تومئ لسيارة التكسي، إن كان سيكفيها كأجرة للتكسي، ما يحتويه “جزدانها” الأسود الصغير من أوراق مالية قليلة من فئة الخمسين والمئة، بالإضافة لبعض القطع النقدية المعدنية من مختلف الفئات ” خمسة – عشرة- 25 – 5″ حتى أن هذا “الجزدان” ومنذ أكثر من عشر سنوات يحوي قطعة معدنية نقدية سورية من فئة “ليرة واحدة” بعدما كانت سمعت من إحدى أقرباء جارتها، أن جماعة التلفزيون أوقفوا رجلا في ليلة رأس السنة وسألوه إن كان معه “5” قروش معدنية، وعندما أجاب بالإيجاب، قالوا له أنه ربح جائزة مالية كبيرة ستغير حياته، ومنذ ذاك اليوم وهي تحتفظ بليرة معدنية وأخرى ورقية، متأملة أن تكون فئة الليرة الواحدة هي من سيكون دورها لتربح الجائزة في أعوام مقبلة، لكن أحدا ما لم يوقفها ويسألها عن شيء كهذا، وهذا لم يحبط همتها فبقيت محتفظة بها.
“عالمشفى” لو سمحت، انطلق سائق التكسي كما لو أنه في حالة إسعاف، وبدأ بالزعيق من شباك السيارة على سيدة تقود سيارة إلى جانبه، لكن “سواقتها على قدها”، فكادت أن “تعبي” فيه، لكنه تفادها في اللحظة الأخيرة، وبدأ يتمتم بألفاظ غير مفهومة خشي أن تكون وصلت لأسماع السيدة التي يقلها، أدار وجهه إلى المرأة الثلاثينية التي تركب معه في الخلف ليعتذر عما بدر منه من ألفاظ نابية، لكنه لم يجد حاجة لذلك، فأم سعيد كان ذهنها في مكان أخر تماما، إنها في طريقها لاستلام جثمان زوجها وابنها وأخيها الصغير، الذي جاء ليقضي عندها عطلة الصيف بعد أن انهى فحصه النهائي في المرحلة الإعدادية، كمكافاة له على اجتهاده كما قال والدها، وأيضا “عالاقل هونيك عندك يا مها ما في قذائف، امان عليه أكتر من هون” قالت أمها وهي توصيها به.
منذ يومين لم تنم “أم سعيد” بعد حلم جعلها تغص بالماء كلما تذكرته، حكت لجارتها الخياطة “سلمى” أنها رأت في منامها كما لو أن لوح بلور كبير ارتطم في الأرض، وكان صوت دوي ارتطامه هائلا، وقطع البلور الصغيرة تناثرت كلها في المكان” الله يجعله خير يا مها” قالت الخياطة، وتابعت “هالمنام مو حلو، لازم تفديه بفجر دم”، هزت أم سعيد رأسها موافقة، لكنها كانت لم تزل ترتجف من صوت ارتطام البلور الذي عاد وكأنه يتهشم أمامها الآن وهي تروي لجارتها الحلم المشئوم.
عبرت السيارة امام كراج جبلة الجديد حيث وقع الانفجار الأول، كانت الحرائق والأدخنة تتصاعد في السماء، ووجوه أوجمها الذهول، تمشي على غير هدى، وكأن الساعة قامت ” لعنكم الله يا ولاد الحرام، في حدا فيه دين وضمير بيعمل هيك؟” تساءل السائق وأجاب نفسه وهو ينظر إلى الدماء التي ملأت المكان ” لا والله اليهود ما بيعملوها!”، نظرة في المرآة إلى السيدة الذاهلة والشاردة وكأنها ميته تتنفس، ” ما وصلنا” قالت أم سعيد بصوت خفيض؟” زحمة كتير خيتي متل مانك شايفة” لم تجب مها، أعادت رأسها للوراء على مسند كرسي السيارة، ثم راحت تتذكر استيقاظها المبكر جدا هذا الصباح، فاليوم كان سيذهب ابنها الكبير سعيد وأخيها الصغير يعرب برفقة زوجها إلى البحر، وعليها تجهيز طعامهم لليوم كله ” كتري أكل مها، السباحة بتجوع” قال الرجل الذي لم يستطع أن ينطق إلا بهذه الكلمات القليلة، لأن زوجته كانت لا تنفك توصيه بأخيها ” دخيلك يا غسان، يعرب أمانة عندي” قالت مها وضحك زوجها ” ونحنا مو أمانة عندك يا حلو ولا ما بيطلعلنا ست مها” قالها وهو يغمزها ويقرص وجنتها بتحبب.
عبرت السيارة دوار العمارة وصارت ضمن بحر السيارات الواقف في الطريق الذاهب إلى المشفى، ” يا الله دخيلك كل العالم رايحة عالمشفى” ضرب السائق بقبضته على مقود السيارة، وقال لأم سعيد ” سمعي مني خيتي خديها مشي إذا مستعجلة، والله ب 3 ساعات ما منوصل” نظرت مها حولها وكأنها كانت في غيبوبة، وهمت بفتح “جزدانها” لكن السائق طلب إليها أن لا تدفع شيئا، فهو لم يقدم لها خدمة التوصيل كما هو متفق، غادرت السيارة وبدأت تمشي بسرعة وثبات، كانت تخترق بمنكبيها الناس الراكضين في أنحاء السوق القديم، الفوضى تعم المكان، عربات الخضار متوقفة في الشارع وكأن أصحابها اختفوا دفعة واحدة، أحذية نسائية وأسماك فضية مرمية وسط الطريق، وثمة جوال يرن ” زعلي طول أنا وياك” لكن أحدا ما لا يجيب عليه، فتبقى الأغنية الكئيبة تخيم على الأجواء.
كانت ذاكرة أم سعيد وكأنها مسحت تماما، ولا يوجد أي شيء في عقلها سوى غيوم بيضاء و الاتجاه الذي يجب أن تسلكه لتصل إلى المشفى، وكانت تنوي اليوم بعد أن تخرج عائلتها إلى البحر برفقة اخيها الصغير، كانت تنوي أن تبخر البيت، قبل أن تتوجه إلى السوق لتشتري دجاجتان على قيد الحياة، إيفاء لنذرها الذي نذرته كفداء لمنامها الثقيل بعد أن قض مضجعها وشغل بالها، وبعد أن انهت تبخير البيت وهي تقرأ بصوت عال المتعودتين والفاتحة وسورة الاخلاص، همت بالخروج لكن رنين جوالها قطع عليها مخططاتها، ألو أهلا ماما، قالت مها ثم صمتت وكأنها تحاول أن تفهم ما تريد أمها قوله ” أي تفجير؟ وين” ايمت أي ساعة” كانت هذه الكلمات هي ما يخرج من فمها فقط، عندما بدأ جرس البيت بالرنين، هرعت إلى الباب وهي تتوقع أن يكون زوجها وابنها وأخيها قد رجعوا ولم يستطيعوا أن يكملوا مشوارهم بعد ما حصل، لكن الطارق كان جارها، الذي أخبرها بكثير من الارتباك، أنه ربما شاهد على التلفاز سيارة جاره أبو سعيد تحترق قرب في مكان التفجير.
لم يكمل الجار جملته، عندما صارت ام سعيد في الشارع تركض صوب الكراج الذي يبعد عن بيتها مسافة اثنان كيلو متر تقريبا، كان زوجها سيعرج على صديقه الذي سينتظره قرب الكراج ليذهب معه إلى البحر إلا أنها غيرت وجهتها فجأة، فقلبها كان يخبرها بشيء أخر، وها هي تمشي الآن تحت وطئه ثقل ما يخبرها إياه قلبها المكتوي بألف نار ونار، “يا الله” صرخت أم سعيد وهي تضع يديها على وجهها بعد أن سمعت صوتا قويا تبعته صدمة تفجير أخر ضرب مشفى جبلة في اللحظة التي وصلت إليها إلى بوابته الداخلية، فجأة كل شيء أصبح بلون البحر الصافي واختفى كل الحزن والخوف الذي لف قلبها واتلفه هذا الصباح.
أم سعيد وأبو سعيد ويعرب وسعيد والصديق الذي لم يكن مقتنعا بالذهاب في هذه الرحلة، والعشرات من الأطفال والنسوة والرجال، كانوا يجلسون حول طاولة الطعام على البحر عند الغروب، يتحدثون بأصوات مرحة عن هذا الغروب الجميل، الذي يشبه لونه لون الدم الأحمر القاني.
تمّام علي بركات