ثقافة وفن

الفنون وخطورة الأثر

يتفق الكثير من النقاد ماضيا وحاضرا على أن قيمة الفنون الحقيقة تكمن في الأثر الذي تتركه على مجتمعاتها، حتى أن بعضهم ذهب ليصف أن نهضة أي مجتمع أو سقوطه إنما هب مرتبطة بشكل جذري مع نهضة الفن في ذلك المجتمع أو انحداره! وعلى هذا لا تقف الفنون موقفا محايدا في منجزها الفني بأنواعه “مسرحي – سينمائي- شعري- روائي ..ألخ” حيث أنها من حيث تدري أو لا تدري تقوم وبعملية ذهنية ونفسية معقدة، بتغير طبيعة وسلوك الفرد، بالتالي الأسرة فالمجتمع فالعالم، وهذا ما انتبهت له أهم امبراطوريات العالم أيضا حاضرا وماضيا، حيث كان وما يزال للفن فيها  دوره الحاسم في تربية وجدان شعوبها وصقل انتمائهم الوطني، و ترهيب أعدائها أيضا بالصورة المشرقة والقوية التي تقدمها عن صُناعها، المصيبة أن ما سبق هو من البديهيات في العالم برمته ولربما تم ذكره والتأكيد على خطورته واهميته، في الكثير من النتاجات الأدبية والفلسفية والنقدية التي كتبت على مدى التاريخ، منذ أرسطو ونظرية المحاكاة الشهيرة، حتى أخر نظرية حديثة تطرح هذا الافتراض على محك التجربة، أما المصيبة الأكبر فهي كيف أننا مثلا لم ننتبه ونحن نباهي بازدهار فن الدراما التلفزيونية المحلية تسعينات القرن الماضي ومطلع الألفية الثانية، إلى خطورة هذه النظرية التي ثبتت صحة فرضيتها في كل مرة اختبرت فيها كما قلنا، الغريب كيف أننا لم ننتبه إلى أننا كنا ونحن نقسم الدراما التلفزيونية المحلية إلى بيئات مختلفة لم تكن موجودة في هذا الفن سابقا “بيئة شامية – بيئة بدوية – بيئة حلبية- بيئة ساحلية” إنما نقوم بإعطاء شرعية فنية لأن يحصل هذا في الواقع أيضا، وها نحن نرى الآن أن هذا حصل منه ما حصل للأسف بعد بداية الحرب الدامية، ولنعرف كيف تم ذلك ما علينا إلا العودة بالزمن قليلا لمعرفة كيف تم وحصل هذا في الدراما المحلية منذ أكثر من عقدين، فهذا أي هذا التقسيم الدارمي لم يكن موجودا في أعمال “دريد ونهاد” مثلا، حينها كانت البيئة التي ظهرت هي البيئة السورية، حتى مع اختلاف اللهجات التي ربما تحضر في مكان واحد دون أن يعني هذا أنها غريبة عن بيئتها -مشهد السجن واغنية الفنان دياب مشهور “يا بو ردين” في مسلسل صح النوم الشهير، على سبيل المثال لا الحصر-.

من ينظر إلى خريطة الدراما السورية منذ ثمانينات و تسعينات القرن الماضي وحتى مدة ليست بالبعيدة سيجد أنه تم تقسيم هذه الخريطة إلى ثلاث مناطق رئيسية، الشرقيّة التي ارتبطت لهجتها بالمسلسلات البدوية، والتي اشتهرت سابقاً في أيام الجمع، وكانت موضوعاتها تتطابق مع موضوعات القصّة في مرحلة العصور الوسطى، أو مرحلة عصر النهضة، ويعني ذلك أنّ الطبقة المعنيّة بالقصّ يجب أن تكون طبقة الحكّام والملوك، يمكن تلمّس هذه الفكرة في مآسي شكسبير التي تدور بمعظمها في البلاط الملكي عن أو بجانب الملوك، فالمسلسلات البدوية قدّمتْ فئة كبيرة من السوريين – حوالي 4 ملايين- من أبناء البادية، ومثلهم أهالي المدن في المنطقة الشرقية، بطريقة مشوّهة للعموم السوري أوّلاً، وثانياً أمام أنفسهم، بحبكات قصصية لا تخرج عن ثيمة شيخ العشيرة المنزعج من شيخ آخر، أو الفتاة الدخيلة من عشيرة إلى عشيرة أخرى، أو الفارس العاشق الذي يجهد لحل أحجية شعرية تقدّمت بها ابنة شيخ من عشيرة أخرى ومن يحلّها يتزوّجها، وهكذا.

لتأتي تعدها التقسيمة السورية الثانية التي كانت في ابتكار ما يُسمّى أعمال بيئة شامية، بدأ الأمر بهجائيتين تلفزيونيتين للـ “شوام” وهما مسلسل “دمشق يابسمة الحزن” الذي يدور عن الأخ الماجن والأخت التي يُقتل حبيبها وتنتهي بالانتحار، ثم مسلسل “أبو كامل” الذي أظهر المجتمع الدمشقي مليئاً بالدسائس والخيانات، شيخ الحارة يُضرب في المخفر، الشخصية الرئيسة يقتل العاشق ويدفنه في أرض الديار في تشويه بصري – مضاميني لانطباعات أرض الديار، وفي تنميط ذهني واضح للبيت الدمشقي أنّه مكان جريمة وجثث!

هذا العمل يتنافر ويتنافى مع أعمال أُخرى سابقة له مثل: صح النوم، لم تكن الشخصيات في صحّ النوم شاميّة، بل كانت سوريّة عامّة، ولكنّ مع المسلسلين الآنفي الذكر تمّ اختراع مفهوم “شوام” بشكله الدرامي، وبعد ذلك جهدتْ تلك الجماعة الانتربولوجية المُخترعة في الدفاع عن نفسها، فكان مسلسل أيام شاميّة، والذي يصوّر البيئة الدمشقية فردوساً مفقوداً، وعلى نهجه ظهرتْ أعمال عديدة مشابهة، تعاملت مع زعيم الحارة والقبضاي والحمّام والحلّاق والخبّاز كبديهيّات واقعيّة، فكان كل كاتب جديد يتعامل مع أيّام شاميّة على أساس أنّه واقع حقيقي، وليس واقعاً وهميّاً، مستنبطاً منه شخصيّات وحبكات أعماله الجديدة، وتنسل من خيوطه أعمال عديدة ليس آخرها باب الحارة

أما البيئة الثالثة التي ظهرتْ في نفس فترة دمشق يابسمة الحزن وأيام شامية، ولكن في السينما، هي بيئة الساحل، قدّمتها “أفلام عبد اللطيف عبد الحميد”؛ صبي يتبول في سرواله، فتاة تستضيف ابن الجيران من الروزنا، شاب لا يعنيه هروب أخته مع حبيبها، كل ذلك في إمعان على تركيز قيم العار وفق المدينة- وليس الريف- المشرقية، وبذلك أُكملت الدائرة التنميطية للسوريين. واندلعت الحرب المناطقيّة دراميّاً تمهيداً لاندلاعها واقعيّاً.

طبعا بقيت أعمال البيئة الحلبية خارج ذلك التقسيم، فهي قليلة، وأيضاً كانت أقرب إلى جبران الخواطر، وبمجملها لا تخرج عن أعمال البيئة الشاميّة، أي إنّها نسخة شاميّة مع فارق فقط أنّها بلهجة حلبية، تلك كانت تُراعي الخلافات الحلبية- الدمشقية، ليست المتوارثة عن عهد الدول الحمدانية والأيوبيّة والزنكيّة، بل تلك الحديثة العهد عندما وقف بعض تجّار حلب الكبار في وجه الوحدة مع مصر، أملاً في وحدة مع العراق تضع حلب على قارعة الطريق التجاري بين العراق والمرافئ السورية، وبين الدمشقيين الذين كانوا مندفعين للوحدة مع مصر.

خطورة الدراما التلفزيونية هي أنها يومية على عكس السينما والمسرح، فهي في كل بيت وفي متناول اليد وتترك أثرها بشكل ممنهج وتدريجي، حتى أن السينما اضطرت أن تلجأ إلى أسلوبها كي “يمشي سوقها” الأنتاجي – مفهوم السينما في التلفزيون- وكان يجب علينا أن نصنع رقيبا فكريا حكيما، مثقفا، عارفا بأهمية الفنون وأثرها ليحميها ومن سوء الاستخدام مثلها مثل أي منتج خطر، لا رقيب بالمعنى التشويهي والغير منطقي أو مهني كالذي نجده اليوم، بل بالمعنى التنويري الوطني الحقيقي المترفع عن كل ضغينة مهما كانت، لم يعد مقبولاً بعد اليوم شرذمة السوريين وتفتيت مصائرهم، فالاقتتال الدرامي  المناطقي على الشاشة، سواء كانت شاشة صغيرة أو كبيرة يجب أن يتوقّف، من كان لديه ضغينة من هذا النوع، فليتفضّل إلى مكان آخر غير الفنّ فيُخرجها، وليترك الفن لأنّه ليس مجالاً لموضوعات من هذا النوع، فالفنّ يسقط عندما يكون مضمونه ساقطاً، وأسقط المضامين الدرامية هي تلك التي تبثّ الفرقة بين أبناء الوطن الواحد!.

تمّام علي بركات