ثقافة وفن

رفقاً بنا!!

أطلق نظره في الأفق بعيداً؛ وحلق به خياله حتى كاد يطفو في الفراغ المترامي، تحمله أفكاره، والذكريات؛ ولوهلة قصيرة جداً، شعر أنه “لا شيء” أو أنه مجرد شيء مرميٌ في الفضاء، كائن فائض على هذا الكون.

– شديد هذا الحزن وجميل أنت به يا صديقي!

– أن تتلقى طعنة من صديق فالحزن شديد، لكن لا عليك، بات الأمر ككل الخسارات المتتالية، شديد هو حزني ولكن؛ ليس كحزني يوم طُعنت البلاد في الصدر وفي الظهر، حزين ولكن ليس كحزني حين نزفت جروحها الأبناء والآباء والأحبة، ليست كحزني يوم نزفت البلاد صديقاً آخر يسمى ” شهيد”، “موت عن موت بيفرق” أليس هو ما تحدثت به أم السعد في رواية غسان كنفاني، الخسارة موت، وتتمايز الخسارات يا أم السعد.

لماذا يجذبنا الحديث عن الخسارات والفقدانات، لماذا يحلو لنا الحديث عن الخاسرين، إذ نراهم في الحزن أشد بهاءً وقرباً.

بعد أن نشر محمود درويش نصه “محاولة رثاء بركان” الذي بكى فيه غسان كنفاني، أتاه كمال ناصر ثائراً غاضباً، بل لعله مصاباً بالإحباط إذ شعر أن لا شيء يمكن أن يقال بعد هذا النص الجميل، لم يتبقَّ شيئاً كي يكتب! سأله معاتباً: “هل بقي شيء لديك تكتبه في موتي أنا”.

أهو نص الرثاء أم هو الشخص الفقيد، أهي حالة الخسران أم هو شخص الفقيد؟ إذ لا رحيل يشبه الآخر، ولا راحل كسواه، لماذا يحب الشعراء والأدباء وحتى الناس بطبيعتهم لماذا يحبون الحديث عن الخاسرين، لماذا يجذبنا تناول قصص الفقراء “لعل أرواحهم هي ما يراه هؤلاء” كان ديستويفسكي مغرماً بالكتابة عن أولئك الذين تلحق بهم الأزمات دوماً، أما الروائي أمبرتو إيكو صاحب “اسم الوردة” ومن خلال مقالاته فكان يرى أن حكايات الفوز وقصص الفائزين موضوعاً لا يبعث في نفسه سوى الملل! وهكذا يبدو أن الأدباء يرون الخاسرين أشد روعة من سواهم! فيتكثف حضور هيكتور في إلياذة هوميروس، وتجعل النكبات والأزمات آنا كارنينا بطلة للرواية والفيلم، ويغدو أسعد الوراق أقرب إلى نبي، وتترك لنا الحروب مادة دسمة لميادين الإبداع.

لكننا رغم جمالك أيها الأدب، ورغم هذا القلب الواسع الذي تمتلكه؛ إذ تجعل من المهزومين والمنكوبين أبطالاً في الحياة وفي حكاياتك، ورغم أنك تجعلنا أكثر استعداداً لتقبل الصدمات، وتهيئ القلوب فتقوى على الفقدانات والخسارات.

رغم كل ذلك ترأف بنا أيها الأدب، رويداً أيتها الحياة، أيتها الحروب رفقاً بنا.. فماذا سيبقى من أرواحنا حين ستلقين بأسلحتك البغيضة في الساح و”كل فقدان يقضم من القلب قضمة”؟!.

دمشق: بشرى الحكيم