ثقافة وفن

في زمن الحرب.. الشعر المختبئ في بيوت العتابا

كما العشب الذي ينبت في الأرض المحروقة التي دمرتها الحرب، بعد بكاء سماوي طويل ومتقطع نسميه “المطر”، كمثله ينبت الشعر أيضا في المدن السورية وأريافها التي لوعها غياب الأبناء، ينبت الشعر كحبق منزلي، بين حيطان البيوت المائلة وفي الغرف التي تحولت إلى ملاعب لذكرى البارحة، على دفتر مراهقة اكتشفت أنها تستطيع أن تتحدث عن ما يعتريها ولكن لورقة بيضاء!، أو في خزانة ستيني أرمل، علق صورة “رفيقة أيامه” على مرآة الدرفة الداخلية للخزانة، وكلما ذهب ليرتدي ثيابه أمام مرآته أخبر تلك الغائبة في الصورة كم اشتاقها، أخبرها بذلك شعرا لم ولن يسمع أحد به إلا هو وهي والخزانة، وفي صوت عجوز هرم يجلس إلى ناره، يرسل العبرات شعرا، من خلال بيت عتابا سكبه حالا في كأس السماء.

هذا الشعر المختبئ، إنه فن العتابا الساحر الذي اعتمد الشعر في صوره وتراكيبه الشعرية ليقول حكمة، أو ليرثي غائباً، أو ليبهج قلوباً ترنمت وتمايلت طويلاً مع طيران أثوابه المزركشة.

في بلاد الشام – وفي الشريط الساحلي تحديدا لهذه القطعة الجغرافية – سورية، لبنان، فلسطين”، يختبئ الشعر الثقيل الوجد والمضمون، في واحد من أجمل الفنون وأقدمها في تلك المنطقة فن “العتابا” الذي حافظ على الشعر الأصيل والصورة الشعرية الباذخة الدلال والمعنى الشعري الممشوق اللفظ، وكأنها درة نفيسة يجب أن تُخبأ في أبسط الأشياء وأعمقها، فكانت العتابا هي الخيار الأمثل لهذا، وهي أي “العتابا” في الجزء الشمالي من هذا الشريط الساحلي، أي في جبال الساحل السوري، لها طبيعة خاصة تكاد تميزها عن باقي هذا أشكال هذا الفن، الذي يختلف في الشكل اختلافات بسيطة بين مختلف مناطق بلاد الشام، لكنه يحمل الجوهر نفسه، أما ما يميز العتابا الساحلية السورية، فهو القسوة الممتزجة بحنين هائل، والمرارة المتناغمة مع عشق صوفي تخلع القلوب حكاياه التي يرويها الموال.

“سرينا يا هلي ايمت نصلهم/ بعاد وبالقلب غرزوا نصلهم/ الجبل لو شال عن قلبي نص الهم/ اتفتت وانمحى وصبح تراب”.

حقيقةً من المستحيل نقل المشاعر والأحاسيس، المختزنة في تلك المفردات مجتمعة في إيرادها على الورق, لأنها وُجدت لتصدح بها أقدم آلة موسيقية عرفها الإنسان ألا وهي الحنجرة، وإذا ما أسعفتني اللغة لأوّصف ما تعشقه الأذن من سحر لفظي محمول على مخمل الشعر، فأستطيع القول عنها إنها:  كروانات مختنقة في حنجرة رجل أربعيني، يركن إلى جمر متقد في ريف بعيد, رجل قد يكون وحيداً، يتدلى من خاطره مشهد غروب أحباء سفحوا شفق غيابهم على آخر رمق.

وكما حال الشعر أيضا ذهب شعر العتابا ليكون إما كلاسيكيا متمسكا بالقوانين ذاتها التي تتمسك بها القصيدة الكلاسيكية “العمودية” أو “حداثويا” منفلتا من كل قيد، كحال قصيدة النثر، لكن هذا التحديث يحصل هنا في المضمون لا في الشكل الذي يجب أن لا يتغير، ومن هنا يأتي نبوغ شاعر عتابا عن أخر، من حفاظه على الشكل وتحديثه المعنى بالدهشة والروعة والجمال الذي يهبه للكلمة، والغرابة التي تشتغل الصورة الشعرية وكأنها تحيكها من كلمات سحرية، والجدة في المعنى الذي يجب أن يكون مبهرا بحيث لم يسبق لأحد أن سمع فيه سابقا، وهذه شروط فنية قاسية، لن يتقنها إلا كل من حبته الطبيعة، روحا تواقة للجمال والخلود.

رغم اختلاف الشروح التي تناولت معنى وأصل كلمة «عتابا» سواء تلك التي أرجعتها لاسم زوجة هاجرة، أو اسم لمكان منعزل تُرك فيه رجلٌ مصاب بالجدري وحيداً بعد أن هجره أهله وربعه، إلا أن الكلمة تخبر عن معناها وأصلها، العتابا كلمة مشتقة من العتب بمعنى اللوم “عتب عليه, عتبا وعتابا.. لامه بمحبة” كما أن المواضيع التي يتناولها هذا الفن غالبا ما تدور حول المعاتبة المتشحة بحزن خفيض إن كان لحبيب مفارق أو خل غائب، كما في بيت العتابا التالي: “حلو يلي القمر لولاك ميتم، هجرتني وجعلت هالدار ميتم، دجلة والفرات وسيحون ميتم، ما وازوا ربع دمعي عالحباب”

تأتي فرادة هذا الفن الشعري الوجداني تبعاً لصاحبه الذي غالباً ما يعتمد في نظم القصيدة على تقنية الارتجال في القول لإظهار الفحولة الشعرية، ومن نافل القول إن طبيعة الجغرافيا التي نشأ بها شاعر العتابا تلقي بظلالها على وعيه الشعري ومفرداته وأسلوبه، فمثلا في الساحل السوري يغلب على الموال كما يسمى الطابع الشعري الحداثوي، الغني بثروة لفظية مذهلة وأسلوب مختلف في طريقة التعبير عن الأشياء كقول أحد شعراء هذا الفن «أحمد شحادة» في الموال التالي: “أنا حولك وعتم الليل مندور، وجهك لشراع الهوى مندور، صرلي بحبك ونسيان من دور، المرتو أنسمت بالعرش حمالة حطب”، بينما تغلب جزالة الألفاظ وقوتها على هذا الفن في المنطقة الوسطى، كمنطقة الغاب وشاعرها الأشهر «أسد فقرو» الشاعر الذي روي أنه قام بارتجال 4000 بيت عتابا، تعدّ من أجمل ما قيل في هذا الفن المدهش ومنها: «ألا يا جروحي القديمة ماتركني، وهم ال سكن قلبي ما تركني، وغداة الدار تندّه مات ركني، حدوا يا القوافي الفن ساب» أيضا وحسب المقولة الماركسية الشهيرة «الإنتاج يحدد الوعي»، وسوف تتدخل المهنة التي يحترفها شاعرنا بالحياة بشكل ما بما ينظمه من أبيات العتابا. وهنا لا بد من الاستطراد والشرح قليلا بأن الموال أو بيت العتابا -يالروعة وقع هذا المصطلح في النفس بإيحائه المذهل, تخيلوا بيتا للعتابا, ماذا يقال في ذلك؟- يتألف من أربعة أشطر، على أن تكون الأشطر الثلاثة الأولى منتهية بكلمة ينطبق عليها الجناس – «اتفاق لفظين في النطق واختلافهما في المعنى»، أما الشطر الرابع فينتهي بباء ساكنة مسبوقة بألف أو فتحة، وهذا النوع هو الأكثر انتشاراً في الساحل السوري بخطه الممتد في بلاد الشام، وأحيانا يضم بيت العتابا إضافة للجناس البديع والبيان، لكن الجناس يبقى الأكثر حضوراً وسطوة من غيره، حتى صار شرطاً من شروط  قول العتابا وغالبا ما يبنى بيت العتابا على البحر الوافر إذ إنه الأكثر شيوعا في تجنيس الكلمة وهي تدور في فلك الشعر بمختلف ضروبه.

لكن العتابا لا تجد لها موقعا في النفس ولا تعد فنا ما لم تصدر عن حنجرة قوية ورخيمة، تتأرجح في حبالها الصوتية العديد من الطبقات الصوتية القادرة على إعطاء كل مفردة لحنها الخاص بها وإيقاعها المناسب في الجملة الشعرية حسب المقامات الموسيقية المستخدمة في الأداء، كالبيات والحسيني، الأكثر انسجاما مع فن العتابا في سورية مثلاً، باعتبارهما يتعشقان اللهجة المحكية التي تغنى العتابا بها وترتجل بها أيضا بتناغم بديع يلهب الأرواح والقلوب، ومن مغنيّ العتابا  الذين برزوا بأصواتهم الجهورية الرائعة على مستوى الإذاعة والتلفزيون منهم الفنان الراحل «فؤاد فقرو-غازي» الصوت النادر فعلاً، ومنهم من اشتهر في الأوساط الشعبية وترددت أغانيهم في السهرات البسيطة والأفراح الشعبية ولكنهم غير معروفين أو لا يوجد من يحاول أن يّعرف الناس بتلك القامات الفنية الجميلة ومنهم المطرب “عادل خضور” صاحب الصوت الشجي والأغاني التي تخلع القلب من مكانه.

للأسف ما تم تصديره من هذا الشعر البديع إلى العالم العربي من خلال بعض المطربين المبهورين بالصريخ لا بالشعر، لا يرقى ليكون حتى شبه محاولة لقول هذا الشعر، كما أن تقصيرا كبيرا وقع بحق هذا الشعر، سواء من المؤسسة الرسمية، أو من الناس أنفسهم الميالون في هذا الوقت للكلمة الماسخة والصورة الشعرية المبتذلة، وهذا له أسباب كثيرة، ليس هنا مقام إيرادها.

إلا أن شعر العتابا، سيبقى محفورا في قلوب ووجدان من يعشق الشعر الأصيل سواء كان باللهجة المحكية أو الفصحى، ولهذا لا يخشى عليه من الاندثار، طالما بقي من يردد بيت العتابا وهو يستمتع بالشعرية العالية التي يسكبها في روحه فتنتشي.

 

البعث ميديا || تمّام علي بركات