ثقافة وفن

ما بعد الحداثية معرفيا ولغويا ومنهجيا عندنا

من المقالات المركَّبة التي تستجمع أطيافاً وأطرافاً عديدة ومتنوعة من المسائل السابقة ككل دراسة بعنوان «المعلوماتية الأخلاق» (مجلة «المعرفة» الشهرية، دمشق، ع 392، أيار/ مايو 1996، ص168-176)[1] والتي لقيتْ حفاوةً لافتةً عربياً على الشبكة الدولية التي لم يحضر العرب عليها حينها بعد، ولكن مباشرةً تقريباً بعد دخول الشبكة/ الإنترنيت عالم العرب وإنشاء طليعة المواقع العربية الخاصة عليها، تلقَّفها موقعُ «بلاغ»Balagh ونَشَرها، ومن ثَم تلقَّفها منه موقع «صوفية معاصرة»…. وهكذا، ويبدو أن مُناقَلاتِها شبكياً اعتمدتْ أساساً على نصّ ورقمنةِ «بلاغ» للدراسة عام 2000 (مبكّراً) – وضمن الدراسة حديث حول «الاغتراب» أو الاستلاب بعامة، ولاسيما ما يُسمَّى «باغتراب المعرفة»، وعن «وجود ونشوء حالات جديدة تماماً من الاعتداء على ملْكية التأليف واقتحام القدرات التأليفية للكاتب بوسائل جديدة لم يُعرَف لها مثيل مِن قبْل». هناك أيضاً: «الملاحقة الإلكترونية» على المستوى السياسي والشخصي،. كانت فترة الحرب الباردة تشهد اتهامات متبادلة بين الغرب والشرق في هذا المجال، كما ويُعرَف عن دول ما يُسمَّى «بالطغْيان الشرقي» تخلُّفها في مجالات كثيرة متنوعة باستثناء استخدام تكنولوجيات كهذه… فالتعليقات والاتهامات المتبادلة «لا تعني عدم انطباقها  على سائر دول كرتِنا الأرضية حالياً إذْ تصف ظاهرة كوكبيَّة عالمية شاملة مع تفاوُت في الدرجات». وثمةَ توثيق مِن موسكو لرصْد حيْثِيَّات أميركية: «كل خطوات الإنسان مِن شراء الحاجيات حتى زيارة العيادة النفسية سوف تُسجَّل في خلايا الذاكرة الإلكترونية ومعنى ذلك انزياح الغطاء الأخير عمَّا يُسمَّى بالحياة الشخصية، وسيكون الأمريكي عارياً بصورة مطلقة تُجاه أيّ كان ممن سيطلب الحصول على المعلومات التي تتراكم يوماً بعد يوم في ذاكرة الآلة»، وهنا أضفْتُ وعلَّقتُ على ذلك بما يشير جانبياً إلى كتابتي النص عام 1995 وهاك التعليق:

«الحقيقة أن هذه الظاهرة معترَفٌ بها أمريكياً، ونجد وصْفاً لا يقل براعةً ودقةً لها في أحد أعداد مجلة «الشؤون الدولية» الأمريكية الصادرة عن جامعة كولومبيا لهذا العام (1995) في عرضٍ لدراسة المحامية والباحثة الأمريكية آني ويلّلز بْرانسكومْب بعنوان: «مَن يمتلك المعلومات؟ مِنَ الخصوصية إلى المدخل الجماهيري (العامّ)» وفيها تبحث عن مَخرَج للمواطن الضعيف تجاه كارتيل المعلومات الضخْم الذي يتلاعب بالإنسان وخصوصيّاتِه…»؛

ولإِثبات شمول هذه الظاهرة كوكبياً شرقاً وغرباً وجنوباً…. أضفْتُ هنا ملاحظةً من تجربتي وذاكرتي في خصوص الشرق (موسكو والسوفييت) فكتبتُ ثمة في هذه الدراسة: «لا أزال حتى الآن أتذكَّر، مثلاً، عبارة سمعتُها أواسط الثمانينات في معهد السينما في موسكو مِن أحد الوجوه السينمائية الكبيرة حين قال: «لقد صُلِب المسيح مرةً واحدة، أمَّا نحن فمصلوبون على الدوام»، وأعتقد أن العِبارة على قِصرِها معبرةٌ بما فيه الكفاية». وبالفعل كان هذا الفنان الكبير – كما عرفتُ من المخرج السوري الذي أراني تصوير فيلم سوفيتي – سوري مشترك حينها هناك – قد «وشَّ» هذه العبارة في أذني كالسِّر عابراً لحْظياً وبسرعةٍ من جانبي.

وفي الإجابة على سؤال: ماذا عن المعلوماتية والاغتراب بوجهٍ عامّ؟ استحضْرت كارل ماركس وتحدُّثَه مطوَّلاً عن اغتراب العمل والاغتراب البضاعي…إلخ، ثم أضَفْت: إذا نظرْنا إلى الإنتاج المعرفي من هذه الزاوية، وفي ظروفنا المعاصرة، وجدْنا «البضاعة»المعرفية أو «المنتوج»المعرفي بصورة أشمل، وعلى اختلاف أنواعِه، قابلاً للتحوُّل في علاقاتٍ معقَّدة مع العامِل (المنتِج) «الفكْري» – أيْ مُنتِج المعارف مِن كاتب أوْ عالِم أوْ فنان….إلخ – ومِن هذه العلاقات باختصار إمَّا الاغتراب (الاستلاب) والعداوة (المواجَهة)، أو الصداقة بمعنى التحقُّق الذاتي وتحصيل شعور الرضا والوصول إلى الهدف المنشود، وذلك كلُّه حسب الظروف الاجتماعية الإجمالية والملموسة. وتابَعْت: ويمكن الكلام الآن على الاغتراب المعلومي أيضاً، ومن الضروري التفريق بينه وبين الاغتراب المعرفي…. وفي الشرح والإيضاح ابتكرنا مفهوم ومصطلح «الحتمية المعلومية» أيضاً مع تعليق: «إذا شِئنا متابعة خط الحتميات التقنية والتقانية (التكنولوجية) التي طُرحتْ في العقود الماضية.»، وتابعْنا: «نجد أنفسنا في مواجهة فهمٍ جديد نوعياً لما يُسمَّى «بالرقابة على الفكْر»: إنه ليس مجرد رقابة خارجية على مداخل ومخْرَجات (منتجات) الفكر كما هو معروف تقليدياً، بل وأيضاً رقابة فكرية داخلية على مسار وعمليات الفكْر – على الأفكار والأحلام والمضامين الذهنية مباشرةً…..».

ثم جاء الاستطراد التالي: «إنَّ أخطار الاغتراب معرفياً ومعلومياً تُلزِمنا بعدم تجاهُل التطورات في مجال مسألة «الذكاء الاصطناعي» لأنَّ مَن يسعى إلى حل هذه المشكلة سيكون في وقتٍ ما قادراً على برْمجة الدماغ البشري ذاتِه والتحكُّم به…».

وجاء في خاتمة الدراسة: فليبحث الإنسان عن بقايا وأشلاء حرية شخصية وحرية اختيار قد يجدها في معمعان ثورة الاتصالات والمعلوماتية بشروط ومعطيات لم تخطر له على بالٍ مِن قبل، مَن يدري فقد يجد لإنسانيَّتِه قاطرةً شاغرةً ما في قطار الزمن الماضي أبداً إلى الأمام.». – انتهى. نعم هذا هو التعبير الصادق عن سوريْاليّة وما بعد حداثِيةِ عصرِنا الذي اختلط فيه الماضي بالمستقبل، وعادتْ فيه كلمة «وراء» العربية لتعني حرفياً ومن جديد الخلْف والأمام معاً، كما كانت دائماً مِن قَبْل كأخَواتِها مِن مفردات الأضداد في العربية والتي تدل على معنَيَين متضادَّين متعاكِسَين في كلمةٍ واحدة حسب السياق والحالة والظرْف..إلخ..إلخ.

وستجد أنَّ ما بَعد الحداثة هي مِن هذا النوع أيضاً فهي تالية زمنياً للحداثة – «أَمام» – ولكنها في جوهرِها ومعناها الأغلب تَخَلٍّ عنها والمُضيّ خلفاً وليس أماماً بالرجوع القهقرى إلى الماضي الأسبق من الحداثة هذه، إنه ضرْبٌ مِن النفْي فالإثبات كما رسَم هيغل ومتابعوه في قانون النفي ونفي النفي جدلياً (ديالكتيكياً)، وقد أثبتْتُ هذه الخاصيةَ المشترَكة الشاملةَ والكاسحةَ في أكثر الميادين المتنوِعة والعديدة جداً مِن توجُّهات وظاهِرات ما بَعد«X» مِنَ المذاهب والاتجاهات الفكرية وأَلْوان الواقع المعُاصِر: ما بَعد الحداثة – ما بَعد الصناعة – ما بَعد البنْيوية – ما بَعد الوضْعية….إلخ، بل وشهدت الفترات الانتقالية التوصيفية فكْرياً ميزةَ الضِّدّية كفكرة ومضمون مقابل مفرداتِ الأضداد العربية ككلِمات، وذلك في مصطلحات مركَّبة معبِّرة عن ذلك: الحداثِية – المضادّة، والعولمة – المضادّة… إلخ.

ومع انعطافةِ العلم والفكر العلمي بداياتِ فأواسط الثمانينيّات واكَبْنا هذا الحدث تزامنياً في دراسةٍ منشورة بعنوان «الفكر العلْمي والتطور» (مجلة «دراسات عربية»، بيروت، ع4، شباط فبراير 1981، ص22-35)[2]، وفيها رصْد وتقويم لأحدث تحدْيثات الفكْر العلمي عالمياً – إنها قفزة بين الحداثَوية وما بَعدها في هذا المجال.

وسبق ذلك الشيءُ ذاتُه مِن تحديثيّةٍ مع طموحٍ إلى نقلةٍ تالية لِما بعدها في خصوص اللغة العربية وقضاياها ومشكلاتِها وحلولِها في دراسةٍ بعنوان «اللغة العربية والتطور» (فصلية «الفرسان الفكري والسياسي»، ع11/ممتاز/1979، دمشق، ص114-120)[3].

وتابعْنا خطَّ التحديث اللغوي بإصرار ولاسيما بمواصَفاتٍ تنسجم مع ما بَعد حداثِيات عصرِنا تقانياً وعلمياً ومعلومياً…إلخ، كما في مقال «العلم والتقنية واللغة والمعلومات»… (فصلية «النقل»، دمشق، ع/20/، تموز 1989، ص27-29)[4]، وثمة كلام في أهمية التجربتَين اللغويتَين الصينية واليابانية بلغتيهما الشرقيتَين الملتقيتَين مع العربية في نقاطٍ كثيرة: «إن تجربةَ اليابان التحديثية بعامة تستحقّ الدرس واستخلاص العِبَر. أما عن أولويات التحديث فيمكن التفريق بين الأولويات الزمنية وأولويات الأهمية والإلحاح… إلخ لإنجاح التحديث». وفي المقال إطراء للمنْهجيات العلمية والمعرفية الأحدث التي أستطيع وصْفها بأنها منهجيات بَعد حداثِية، والتي لم تحضر عربياً بعدْ كما ينبغي أوْ لم تدخل ساحةَ الوعْي الميتودولوجي (المنهجي) الفلسفي بعد على أيّ حال، أعني المنطلق/المدخل المركَّب وتعددية الاختصاص … أوُثِّق: «إنّ مِن أهم إيجابيات المنطلق الذي يستخدمه المؤلِّفان… هو أنه منطلَق مركَّب يتناول المشكلة بصورة إجمالية بتنوُّع عناصرها ومكوِناتِها… وهذا المنطلق المركَّب الذي يبحث المسألة مِن عدة جوانب ومن زاويةِ تعدد الاختصاص بات ضرورياً للنظر في أي مشكلة عصرية ومعالجتِها، فالعصر الحالي هو الذي يتطلب منهجيّاً منطلقاتٍ كهذه».

وهذا وأمثالُه مِنْ مقارَبات الإيغال في الحداثوية اللسانية لدراسة اللغات، والعربية منها بخاصة، هو ما قمْنا بتأكيده مجدَّداً في دراسة «اللغة العربية في عصر المعلومات» (مجلة «الوطنيَّة للمعلومات»، ع28، دمشق ك1 1996، ص49-51)[5]، مع التذكير بهذه المنْهجيات والمقاربات  والتأكيد عليها منذ مطلع الفقرات الأولى: «إنَّ بحث أي قضية أو مشكلة بصورة لائقة في عصرنا الحالي يقتضي النظر إليها ومعالجتها من زوايا عديدة ومن وجهات نظر اختصاصية غنية وكثيرة– أي يلزم التمتع بما يُعرف الآن بالمنطلقات المركبة والمقاربات متعددة الاختصاص…. وهذا ما يلزم فعْله تماماً لدى النظر في قضية اللغة العربية وصِلتِها بالعصر– أي صِلة العربية بعصر العلم والتكنولوجيا والمعلومات…».

وفي مكانٍ آخر نَجِد: «إن التطوير اللغوي – المعلوماتي للعربية يقتضي العمل على «اقتصاد المجهود» اللغوي قدر المستَطاع والوصول إلى النتيجة الفكرية والهدف الثقافي بأقل جهْد لغوي، وهذا ما يعني الاعتماد على لغة عربية سليمة ومعافاة ومعاصِرة ومتماسكة ومركزية غير مشتَّتة في وقت واحد – أي بالاعتماد على لغة عربية حديثة ومتطوِّرة  تستطيع الحِفاظ على أصالتِها واستقلاليتِها بدعْمٍ منَ التواصل الإيجابي مع العصر ولغاتِه وثقافاتِه الكبرى -… بهذا المعنى يتحول المزيد مِنْ تعلُّم اللغات العالمية الحية والتواصُل معها مكافِئاً لمزيد من خدمة اللغة ا لوطنية القومية وتقْويَتِها وتصليبِ عُودها في وجْهِ عواصفِ العصر الحالي– هذا العصر الذي اندمج فيه التقدُّم التكنولوجي مع التمرْكُز العلمي – المعلوماتي الغربي مع «العولمة» الكاسحة للُّغةِ الإنكليزيةِ بنموذجِها الأمريكي.». وهنا نجد مجدَّداً مساهمةً في انطلاقةِ مصطلحِ ومفهومِ العولمة عربياً في بدايات الماراتون – عام 1996 على المستوى العام وليس الفردي «عندنا» – بل وبفارقٍ هامّ وجذْريّ أنَّ العولمة مصطلحاً ومفهوماً ومضموناً فكْرياً انطلقت عربياً حينَها بدلالاتٍ عامة وغائمة أو فلنقلْ مائعة غير مائِزة، أمَّا هنا فَهي بالتحديد عولمة لغوية تفْصيلاً أيضاً، وعولمة اللغة الإنكليزية – الأمريكية بملموسيةٍ أكبر وبتحديدٍ وتفصيلٍ إضافيَّين.

وفي نهايةِ المقال الموظَّف تحديثياً وحداثوياً مطالَبَةٌ بضرورة «تحديث وتطوير العربية لسانياً (أي باستخدام اللسانيات الحديثة) وحاسوبياً (أي بالتْحامِ العربية مع المعلوماتية)…».

هوامش المؤلِّف في النصّ مرتبَّةً سِياقيّاً

1– المعلوماتية والأخلاق؛ مجلة المعرفة، دمشق، ع392، أيار /مايو 1996، ص168-176.

2– الفكر العلْمي والتطوّر؛ مجلة دراسات عربية، بيروت، ع4، شباط فبراير 1981، ص22-35.

3– اللغة العربية والتطوّر؛ فصلية الفرسان الفكري والسياسي، ع11/ممتاز/ 1979، دمشق، ص114-120.

4– العلم والتقنية واللغة والمعلومات؛ فصلية النقل، دمشق، ع/20/ تموز 1989، ص27-29.

5– اللغة العربية في عصر المعلومات؛ مجلة «الوطنية للمعلومات»، دمشق، ع28، ك1 1996، ص49-51.م.ن 5/3/2017

 

د.معن النقري