ثقافة وفن

ثرثرة الكترونية

كان الجميع “يثرثرون” قبل “مواقع التّواصل” حول كلّ شيء وأيّ شيء، سواء مَن كان يعرف شيئاً عمّا يثرثر حوله أو لا يعرف شيئاً.

ولكن النقلة “النوعيّة” المهمّة في “الثرثرة” ما بعد “مواقع التّواصل” أنّ “ثرثرتنا” تحوّلت من “ثرثرة شفاهيّة” إلى “ثرثرة كتابيّة”، والفروق بين “الشّفاهيّة” و”الكتابيّة” مهمّة؛ فـ”الشّفاهيّة” أكثر اعتماداً على “البديهة”، وأكثر وقوعاً في “الزّلات”، وأكثر تأثّراً بـ”الانفعالات”، و”ردود الأفعال”، كما أنّها لا تُنقل إلا بـ”الذاكرة والتذكّر”، وهي -أيّ الثرثرة الشّفاهيّة- قصيرة العمر يُمكن أن يزول أثرها وحشوها الفارغ في الغالب بعد مدّة.

ولكن “الكتابيّة” أقرب “للرويّة”، و”التفكّر”، و”القصد والعمد”، فالذي يكتب يُمكنه أن يُراجع ويؤجّل نشر ما كتب إن رأى ذلك، لذلك يغلب أن يكون إنتاج النّاس كتابةً أجود من كلامهم الشفويّ المرتجَل، كما أنّ الجرأة على نشر “كتاب”، أو نصّ مكتوب في صحيفة أو مجلّة أقلّ بكثير من الجرأة على “الثرثرة”، والكلام الشفويّ.

مشكلة الكتابة في “مواقع التواصل” أنّها كتابة تحمل سمات “الشّفاهيّة” وتفتقد أغلب مزايا “الكتابيّة”، وهذا يجعلها طوراً جديداً تصاحبه مشاكل وعثرات كثيرة؛ فانفعالاتنا “الفيسبوكيّة” لم تعد “معذورة”، ولا “قابلة للنّسيان”، فهي محفوظة ولو بـ”سكرين شوت!”، وعند الحاجة ستجد مَن يفتّش عن “منشوراتك” و”مشاركاتك السابقة” دون أن يراعي سياقها الزمانيّ والظرفيّ، كما أنّ الفاصل الدّقيق بين ما يستحقّ أن يُكتب ويُقرأ كاد أن يتلاشى، فإذا كنّا في أزمنة سابقة نعيش حالة “فوضى الكلام”، يتكلّم مَن شاء فيما شاء، صرنا نعيش حالة “فوضى الكتابة”، فالكلّ يكتب فيما شاء كيف شاء!

ربّما لا يملك أحد أن يمنع أحداً من “الكتابة” و”الكلام”، ولكن لا يملك مَن يكتب أن يمنع أحداً من وصف “كتابته” بـ”الهراء” متى رأى ذلك، فأيّها “القرّاء” أقيموا معادلة “العدل” بينكم وبين مَن يكتبون، وقولوا عن “الهراء”: هذا هراء، دون “خجل” لم يمنع مَن “كتب الهراء” من نشره مُعجباً به!.

تمّام علي بركات