ثقافة وفن

“الطّاعون”.. خيال روائيّ يجسّده الواقع

الأثر النوعيّ الذي خلقه الوباء في العالم سيستمر طويلاً، وسيتشابك بنسيج الحياة وتفاصيلها، معلناً قوته وقدرته فرض لبوسه الخاص على كلّ أنظمة الواقع، وهو لن يكتفي بالشّأن الإنسانيّ والصحيّ والاجتماعيّ فحسب، بل إنّ هذا الأثر سيجتاح عوالم الأدب والفنّ والسّينما وسيفرض إيقاعه الخاص عليها باعتبارها العوالم الأكثر شغفاً بمحاكاة الإنسان، بمسرّاته وملمّاته، وخاصّة الطّارئ منها والدّخيل والمختلف، لتكون الأقدر على التّعبير، بما تمتلكه من قدرة فائقة على نقل المعاناة وتصوير الواقع كما هو، وسبر المشاعر الإنسانيّة بكلّ تجلّياتها وتقلّباتها، دون زيف أو تكلّف، ومما لا شكّ فيه أنّ هذه الجّائحة، ستترك من التّجارب الإنسانيّة والقصص والعبر ما يستحقّ أن يُروى وينقل أدبيّاً وفنيّاً وبصريّاً..

وإن كان الأدب، على مر الزمن، قد تناول كل ما يعرّي الواقع والإنسان على حد سواء، فإنه بالضرورة قد تناول الجائحات على طريقة الأدباء وأساليبهم المختلفة، فكانت لهم القدرة على التعبير عنها والذهاب بها إلى ما هو أبعد من المرض والجائحة..

قد تكون رواية “الطاعون” للأديب ألبير كامو المرآة الأكثر صدقاً في التعبير عمّا نمر به اليوم، فهناك الكثير من نقاط التلاقي والإسقاطات والأبعاد المشتركة التي نقلتها الرواية وحملها الواقع الذي نعيشه الآن، فالأحداث المتخيلة التي مرت عقود على كتابتها، تنقل لنا حرفياً، بدايات المرض ومؤشراته، وتعمّد البعض الاستخفاف به، لتتسع الدائرة ويستشري سريعاَ بين الناس متحولاً إلى وباء خطير يفتك بالبشر دون القدرة على السيطرة عليه..

الطاعون في الرواية يجتاح مدينة وهران الجزائرية لتنعزل عن العالم ويجبر سكانها على الابتعاد والبقاء في منازلهم خشية انتشار المرض، وهنا يبرز النموذج الأمثل للتعامل مع هذا النوع من الجائحات؛ الطبيب ريو، من خلال امتلاكه مبادئ إنسانية ومهنية، تجسدت بمحاربة المرض وتخفيف معاناة المرضى، وعزل المصابين، وحماية الناجين، في المقابل هناك النموذج السلبي الذي تجاهل الوباء وتعامل معه دون اهتمام أو مسؤولية، والمثير في الرواية هو التحوّل الكبير الذي أصاب بنية الشخصيات خلال أحداث الوباء والذي انعكس في أقوالهم وأفعالهم في إشارة جلية إلى التغيير الذي يطرأ على الإنسان في هذا النوع من المصائب، والوجه الحقيقي له الذي تخفيه الأيام وتظهره البلايا والآلام..

قد تحمل الرواية في مضامينها آثار الحرب العالمية الثانية، وقد يكون الوباء في الرواية هو رمز للنازية الألمانية التي اجتاحت فرنسا واحتلتها، لكن ذلك لا ينفي أبداً قدرة هذه الرواية على نقل معاناة الوباء، أيّاً كان، وتوصيفه بدقة والعناية بسرد تفاصيله وأحداثه.

خلقتْ الرواية تجربة أدبية وإنسانية حيّة، رغم أنها متخيّلة في وقتها، إلا أننا نعيشها الآن، بكل مراحلها ومعانيها، يختبر فيها العالم بأسره قسوة الوباء ومعنى الصراع مع الحياة ومع الموت في آن واحد، لتكرّس التجربة أبعاداً أخرى تتجاوز الجائحة والمرض والخوف من النهاية.

هديل فيزو