ثقافة وفن

من”العمى” إلى “الكورونا”…. مُبصر في مملكة عميان

منذ الأزل والأوبئة منتشرة ولها باع طويل بصحبة البشر، من الطاعون إلى الموت الأسود إلى الكوليرا وفي عصرنا الراهن الكورونا.

ظهرت الكورونا فجأة في مدينة ووهان الصينية وتفشّت خارج أسوار الصين العظيم لتحطّ رحالها في كل بقاع الأرض لاتميز بين عرق أو مذهب ولا صغير ولا كبير، وهذا ما سرده الأديب البرتغالي جوزيه ساراماغو في روايتة “العمى” حيث يبدأ قصته بحدث غريب في مدينة مجهولة تتوقف سيارة وسط زحام الطريق يخرج السائقون ويخبّطون على زجاج السيارة الذي بدا داخلها رجل يحرك رأسه يمينا وشمالا ومن خلال حركة شفتيه بدا يصرخ بشيء ما ثلاث كلمات فقط “أنا أعمى، أنا أعمى، أنا أعمى” اتضح ذلك حينما نجح أحدهم بفتح باب السيارة، ساعدوه بالخروج والدموع طافرة من عينيه جعلتهما تبدوان أكثر تألقا، تم إسعافه إلى عيادة طبيب، ليقف الأخير مذهولا  أمام عينان سليمتان لا وجود لأي آفة، يتابع الطبيب قائلا طوال سنوات ممارستي المهنة لم أصادف حالة شبيهة بحالتك، بل لم تعرف حالة كهذه في تاريخ طب العيون كله، رجل يفقد بصره بغمضة عين ويرى كل شيء أبيض حليبي كثيف؟

يطلق الكاتب العنان لجمهوره القارئ متخيلا ما تؤول إليه أحداث العيادة من تطورات، إذ يفاجأ الطبيب مساء بانتقال العدوى لكلّ من احتكّ بالمريض في عيادته بمن فيهم هو، حيث قام الأخير بإبلاغ الوزارة، بدوره شكره الوزير على حماسته قائلا له تصرفك العاجل سيساعدنا في محاصرة وضبط الحالة، لتصدر التعليمات بجمع كل العميان وعزلهم لمنع ظهور حالات مشابهة مستقبلا وهذا المقترح كان من خلال تجربته القديمة من زمن الكوليرا والحمى الصفراء.

تم تجميع كل من عمي وعدد كبير ممن يفترض أنهم يحملون العدوى في مشفى مجانين مهجور حتى إشعار آخر، يحوي جناحين منفصلين، القسم الأول للعميان والثاني للمشتبه بحملهم العدوى، إضافة لردهة فاصلة بينهما تعتبر منطقة محايدة يعبرها الذين يكتمل عماهم فينضمون للعميان، معوّلة الحكومة على الروح الشعبية وتعاون كل المواطنين لاستئصال أي عدوى أخرى مفترضين أنهم أمام مرض معد ومنوهين بأن قرار تجميع من أصيبوا بالمرض لم يكن قرار ارتجالي، فالحكومة تعي جيدا مسؤولياتها.

المركز يخلو من أي وسيلة للحياة لا مياه نظيفة ولا مراحيض صالحة للاستعمال البشري، عدا عن الخلافات والمشاحنات التي اندلعت على الطعام والدواء ليغدو المكان كغابة، لدرجة أن يقتل أحد العميان على عتبات المركز عندما حاول طلب المساعدة بغية تضميد جروحه التي تقرّحت، هنا يكمن الاختبار الأعظم للبشرية ما إن حلّ الوباء حتى تجرّد المجتمع من انسانيته وغلبته غريزة البقاء، وخارج المبنى جنود لمراقبة العميان تاركين لهم صناديق الطعام ثلاث مرات يوميا بعد أن يصدروا التعلميات بمكبر الصوت.

بينما انحصر واجب العائلات بحجر عميانهم داخل المنازل وعدم السماح لهم بالخروج إلى الشوارع كي لا تزيد مصاعب حركة المرور ولا يجرحوا مشاعر الأشخاص المتضررين الذي يعتقدون غير مبالين بالآراء التي تؤكد خطأ اعتقادهم أن العمى الأبيض ينتشر عن طريق الملامسة البصرية مثل “اللامة” العين التي تصيب بالسوء.

واللافت بالقصة أن كان كل من بالمركز عميان باستثناء زوجة الطبيب سردت واصفة حالها وسط مجتمع عميان: “ما أصعب أن يعيش إنسان مبصر في مجتمع أعمى”، ” لا أعتقد أننا عمينا بل أعتقد أننا عميان يرون، عميان يستطيعون أن يروا لكنهم لايرون”،” بينما الطبيب يقول: إن استعدت نظري ثانية، فسوف أُدقق النظر في أعين الآخرين، وكأنني أنظر في أرواحهم … في أرواحهم أم عقولهم ؟

كما يسلط الأديب الضوء على مقولة الحب أعمى من خلال  شابة جميلة أصابها العمى خلال عملها في الزنى، وبالها مشغول على والديها، تظل تفكر في خطة لتطمئن علليهم. كأن الكاتب يريد أن يقول أن من نظن أن أخلاقهم فاسدة في كثير من الأحيان يكونون أصحاب بصيرة وروح نقية.

تهرب زوجة الطبيب هي وزوجها ومجموعة العميان الذين كانوا بجناحها بعد أن قتلت زعيم العميان في الغرفة الثانية بمقص، حيث كان الأخير يحتكر الطعام هو ومن معه من اللصوص العميان مقابل أن تضطر زوجة الطبيب ورفيقاتها من النساء العمياوات لمنح هؤلاء اللصوص ما وهبتهنّ الطبيعة إياه كي يمنحهنّ الطعام هنّ وأزواجهن، تقول واصفة حياة المحجر بأننا انحدرنا إلى الدرك الأسفل من المهانة، كل أنواع المهانة حتى وصلنا درجة الانحطاط إذ “لاتعرفوا ماذا يعني أن نكون مبصرين في عالم كل من فيه عميان، أنا لست ملكة، بل أنا ببساطة تلك الانسانة التي ولدت لترى هذا الرعب، بوسعكم أن تشعروا به غير أني أشعر به وأراه”.

في نهاية الرواية وبعد أن يتعافى الجميع من العمى يقول الطبيب محدثا زوجته: “لا أعرف لماذا عمينا فربما نكتشف الجواب ذات يوم”، لتجيبه زوجته: “لا أعتقد أننا عميان، عميان يرون، بشر عميان يستطيعون أن يروا لكنهم لايرون”.

الجدير ذكره أن المدينة مجهولة والشخصيات بلا أسماء بل اكتفى الكاتب بإطلاق ألقاب مثل (الطبيب، زوجة الطبيب، واللص والفتاة ذات النظارة السوداء، وهكذا)، ربما القصة بتفاصيلها ضرب من الخيال ولكن بجانبها الجميل المشرق من خلال سرعة فرض الإجراءات والتدابير والاحترازية للحد من تفشي وباء العمى والروح الشعبية للأهالي بحجرهم من يشتبه بإصابته في البيوت،  تشابه تجربة الصين الناجحة التي سارعت بفرض الإجراءات الاحترازية للحد من تفشي الكورونا.

من جهة أخرى فهناك جانب سلبي ومعاناة حقيقية  في القصة عكسته الخلافات والمشاحنات في المحجر على الطعام والدواء، وموت أحد العميان على عتبات المحجر عندما حاول طلب المساعدة بغية تضميد جروحه التي تقرّحت، والجنود قابعين خارجا يحرسون المبنى مكتفين بإصدار التعليمات بشكل يومي، وهذا ربما يشابه إلى حد ما بعض تجارب البلدان في العالم في حجر مرضى كورونا.

تميزت الرواية بحبكتها المدهشة التي انتقدت الطبيعة البشرية وانحدار الانسانية  في ظل غياب الوعي وعودة العصبيات الغرائزية  إلى مستوى ما قبل الحضاري وغرائز انسان ما قبل التاريخ كغريزة البقاء بصورتها الخام إلى جانب غلبة العدائية المفرطة للمصلحية الفردانية.. وبهذا اسقطت الرواية ورقة التوت عن هشاشة الحضارة المدينة المعاصرة.

ما إن نفرغ من قراءة الرواية حتى تراودنا أمنية ملحة بأن نستيقظ ويستيقظ العالم يوما تكون فيه الكورونا قد اندثرت وولت من غير رجعة تماما كما ولّى وباء “العمى” فجأة في الرواية.. فهل يكون؟.. كل هذا يبقى رهن دواة الأقدار وما يخبئه المستقبل بين طياته لنا.

صدرت الرواية عام 1995، نال مؤلفها جائزة نوبل للآداب عام 1998، أدرجت الرواية في قائمة أفضل 100 رواية في التاريخ.

 

البعث ميديا||قراءة: ليندا تلي