سلايدمجتمع

بين الأمومة والأبوّة.. علاقة يحكُمها التّفاضل ويتوّجها التّكامل

 

لم تُكمل “يارا” ربيعها العشرين بعد، حتّى صدمت الجميع بقرارها الزواج برجل يكبرها بثلاثين عاماً، “يارا” توهّمت، حينها، أنّ ذلك حبّاً، لتكتشف فيما بعد أنّها إنّما كانت تبحث عن أبوّة غائبة رغم حضورها، فعلى الرغم من “وجود” والدها، إلا أنّ صورة الأب المفقودة كانت تلحّ عليها بشكل دائم، لتبحث عنها وترتجيها في كلّ الوجوه..

يبقى للأمّ مكانتها العليّة التي لا ينازعها عليها أحد، ولا تدانيها المراتب مهما تسامت، فهي الوطن الأول الذي يهب الاحتوائيّة الكاملة منذ بدء التكوين، ولكن، أين الأب في هذه المكانة، وكيف يمكن للعطاء أن يكون حكراً على الأم فقط، رغم أن الأب هو الشريك الحقيقي والأهم لهذا العطاء، وقد يضاهي عطاؤه عطاء الأم، وقد يسبقها بمراحل، وقد يتفرّد به أحياناً!

تُثار هنا، أيضاً، الإشكاليّة المتعلّقة بأسباب هذه الفجوة بين الأب وأبنائه وتداعياتها على بناء الأسرة، فإن كان للمجتمع والتربية دور في تشكيلها، إلاّ أن العبء الأكبر يقع على الأب الذي يساهم بشكل أو بآخر في اتّساعها، كما تقع على عاتقه أيضاً مهمة ردمها، والبحث عن سبل ترميمها..

 

ثقافة مجتمعيّة قاصرة

تواطأ المجتمع، بشكل أو بآخر، على تجاهل دور الأب في بناء أسرته، متعمّداً الاتكال على الأم فيما يخص التربية وبناء الطفل وتعليمه، خاصة في المجتمع العربي، ما جعل الأب، بقصد، أو دون قصد، يتجاهل هذا الدور المنوط به أيضاً، متّبعاً منظومة اجتماعية خاطئة، كان لها أثرها على أساليب التربية المتبعة، الأمر الذي لا بد أن يفضي إلى عواقب تترك تداعياتها القريبة والبعيدة على الطفل والأسرة..

هذا الأسلوب الخاطىء في التربية أشارت إليها اختصاصية علم الاجتماع، ندى بعبع، التي أكدت أننا في مجتمع يرتبط فيه مفهوم التربية بوجود المرأة، فعندما نتحدث عن الطفل، نتحدث عن الأم مباشرة، دون أن نلقي الضوء على دور الأب في هذه التربية، وأهمية دوره في بناء شخصية الطفل، وبما أننا نعيش في مجتمع شرقي تكون فيه للرجل صلاحية تحديد مختلف أمور البيت، فإن الأب، أيضاً، قد يلقي على عاتق المرأة مسؤولية التربية كاملة، ليس فقط لأنه مشغول بتوفير لقمة العيش، بل قد يكون جهلاً منه بأهمية وجوده في مراحل تربية الطفل، وما يخصه في بناء شخصيته بشكل متوازن.

 

المعلّم الأول.. ليس المتسلّط

يكتسب حضور الأب في أسرته معناه الحقيقي حين يتجسّد بأبعاده المختلفة، فلا يقتصر على الدعم المادي فقط، بل هناك أبعاد أخرى لا تقل أهمية وشأناً، وربما تكون هي الأهم في بناء الأب لأبنائه..

فالأسرة، وفقاً للأستاذة ندى، تحتاج إلى منهجية خاصة ودعائم قوية في علاقاتها فيما بينها، وفي معاملاتها مع أفرادها، حتى تستطيع تحقيق السعادة وتحصيل الغايات والأهداف المنشودة، ووجود الأب في حياة الأطفال هو الأساس، فهو الحماية والرعاية، ووجوده يعني القدوة والسلطة والتكامل الأسري، فالأطفال بحاجة إلى أن يشعروا بأن هناك حماية ورعاية وإرشاداً يختلف نوعاً ما عما يجدونه عند الأم، وبأن الأب هو الراعي الأساسي للأسرة، وهو المسؤول عن رعيته، فوجوده كمعلم في حياة الطفل، يعتبر من العوامل الضرورية في تربيته وإعداده.

 وبحسب بعبع، فإن بعض الآباء يظنون أن دور الرجل يقتصر على تأمين السكن والملبس والمصاريف، ويعرفون مفهوم رب الأسرة بأنه ذلك الديكتاتور المتسلط الحازم في كل شيء، لكن هذا خطأ فادح، فمشاركة الأب في تربية الأبناء شيء في غاية الأهمية، لما له من تأثير قوي في شخصية الأبناء، فالأب يستطيع تحقيق التوازن الأسري، من خلال اهتمامه بأبنائه ومصاحبتهم ومعرفة أفكارهم وميولهم وهواياتهم..

 

تقاسم الأدوار

تبقى الأسرة السعيدة هي الأمل الدائم الذي ينشده ويسعى إليه الأبوان في بناء العائلة، لكن هذا الهدف لا يتحقق بالأمل وحده، بل بتحويل هذا السعي إلى حوار مفتوح تتشارك فيه الأسرة وإلى بناء متكامل قائم على تقاسم فاعل ومدروس للأدوار بين الأبوين..

 فلكل من الأب والأم، وفقاً للاختصاصية ندى، دوره ومهامه المختلفة في تربية الأطفال، كما أن هناك أدواراً مشتركة بينهما، ويجب أن يعرف كلّ منهما مسؤولياته وواجباته تجاه الطفل، فلا يمكن للأم أن تقوم بدور الأب في تربية الطفل أو العكس، إلا في الحالات الاستثنائية التي يضطر فيها أحدهما للقيام بدور الآخر، وذلك في حالة الانفصال أو غياب أحد الطرفين.

 

إن كانت الأمّ هي روح البيت فإنّ الأب هو أساسه وسكينته، والله قد خلقنا من آدم وحواء، فلا يمكن للمشهد أن يكتمل إلا بوجودهما معاً، ولا يمكن للحياة أن تتوازن إلا بهما، فبين عاطفة الأم وحكمة الأب ينمو ابن يغترف أبجديّة الحياة ويتشرّب ماءها ليعيشها كما يستحق وكما يليق به، بأمومة كاملة وأبوّة كاملة..

 

البعث ميديا || هديل فيزو