ثقافة وفن

هادي الربيعي.. نشيد الإنشاد الصوفي

حين يحاول الناقد رصد تجربة شاعر أو كاتب كتقديم لدراسات أثره الإبداعي تقف المحاولة أمام سعة تجربة الشاعر، ولعل (هادي الربيعي) من الشعراء العراقيين القلائل الذين نحتوا تجربتهم الشعرية بقوة وإرادة حرة وإصرار، فعبر تجارب شعرية ما بعد ديوانيه (أغاني الطائر الأخضر الغريب) و(البحث عن الزمن الأبيض) عمل على ترشيح تجربته الشعرية وفق مسار يحفل بالقصائد ذات النفس الروحي، المشغولة بالهموم الكونية اجتراح رمزه المبتكر، حيث استغل مثل هذه الأجواء الروحانية في بعض قصائد ديوانه (البحث عن الزمن الأبيض) وما بعده (ارتحالات، عربات الآلهة، العشاء الأخير، يدي التي تحترق، نقوش على نصب الشهيد) حيث نتلمس تحولاته في اتساع رؤاه الشعرية وتأملاته الذاتية التي طرحت جملة أسئلة تندرج في باب فلسفة الوجود، فهو شاعر كوني التشكيل والممارسة.

يتميز الشاعر هادي الربيعي عن أقرانه الشعراء العرب بأنه يتعامل مع الأسطورة من باب أسطرة الواقع وليس من باب توظيف الأساطير في نصوصه، تماماً كما بلور الشاعر (السياب) توجهه الأسطوري الخالص في قصائد (أنشودة المطر، المومس العمياء) مثلاً، كذلك لعب التناص دوراً في صياغة الدلالة الموحية والتناص تركز في التاريخ ونماذجه الموحية، ومع الأساطير كما هي أسطورة (قابيل وهابيل) والغرب، لقد ركز في مثل هذه التناصات للتعبير عن رؤيته للفناء والانبعاث الذي شغله كثيراً وعبر به إلى مصاف التوجه الصوفي، ولعل البانوراما التي حفل بها شعره دفعه إلى صيغ السرد في تعامله مع الأحداث ومروياته الشعرية، ولا يبتعد خلال هذه الصياغات عن التفرد الفني للقصيدة، سواء في فضائها الواسع، أو بما ساهم في التصعيد بواسطته إلى مصاف التراتيل والأناشيد الصوفية، ولهذا فإن مجمل قصائده تحمل رؤى ذاتية تخص كل متعلقات العيش.

هادي الربيعي بدأ رحلته منذ النصف الثاني من فترة ستينيات القرن المنصرم، وكان عالمه الشعري مقروناً بالتجديد، والتجوال ضمن حلقات الشعر العربي، مارس كتابة الشعر العمودي والتفعيلة ثم النشر، وكان في كل هذه المجالات متميزاً، اتخذ من رمز (نورندا) مثابة بنى عليها فضاءات منذ صدور ديوانه (ارتحالات) الذي أصبح فيه البعد الروحي يشكل علامة إلى جانب الشيئية، وهو القائل في قصيدته (نورندا):

نورند

أعماقي شلال ضوئي

تدفق

من أعلى صخر الأحلام

ثم

هل يمكن أن تهدأ داخل أمواج النار

فوق الساحل

كانت نورندا تصخب

تمرح، تعدو

وتراشقني الماء

أحياناً

أسمع في أعماق الليل

خفق خطاك الهامس

أو أسمع همسك

يأتي من أعماق نائية

أتتبعه

يوصلني حيناً للوردة

حيناً للنهر

وحيناً لجذور الأشجار

وهكذا نجد أن الشاعر يستلهم صيغ قصائده من مرائيه الذاتية، ونعني بها صور الحس الروحي أكثر لتحقيق رؤى صوفية، وأن معظم صوره الشعرية مصاغة من مفردات البيئة الصاعدة برموزها التي تكشف عن ولع صوفي كالتعليق برمز بالطيور والماء والعواصف، ففي شعره نكهة التجلي الروحي.

 

د. رحيم هادي الشمخي