ثقافة وفن

“المصابيح الزرق”.. رحلة كفاح وصمود

“لم تكن لاهياً يا حنا.. وإذا لم تعرف بعد قيمة ما صنعت فيجب أن يتاح لك النظر في عيون جميع القراء.. أو أن تحيا حياة الأجيال المقبلة.

بهذه الجمل ختم شوقي بغدادي مقدمته في رواية “المصابيح الزرق” للأديب السوري حنا مينا، منوهاً إلى سابقة قلّما نجد لها شبيهاً بين محاولات الأدباء والشعراء، ولعلّ أكثرهم قلقاً وإخلاصاً لا يعدو عمله أنه يحكك أثره بنفسه طوال عملية الولادة، فلا يقرؤه إنسان غيره قبل أن يصدر في كتاب مطبوع، أما “حنا”، حسب بغدادي،  فقد صنع هنا شيئاً آخر، مُذ خطّ قلمه السطور الأولى في كتابة روايته هذه أعلن الخبر بكل بساطة وطيبة على من حوله، وعرض على رفاقه مسودة الصفحات الأولى إلى أن تكاملت، ومن ثم أدار بكتابه على جميع أصحابه ورفاقه قبل طباعته كي يقرؤوه كاملاً ويبدوا رأيهم ليبدأ بعدها عملية التنقيح والتعديل والتسويد والتبييض، حتى أنه فكر جدياً برمي كتابه بالنار والتمنع عن نشر هذه الأشياء التي لا يعرف قيمتها رغم كل ما سمع عنها.

بمزيج ما بين العامية والفصحى يصوّر “مينا” بين ثنايا كتابه حياة جماعة من الناس البسطاء في أحد أحياء مدينة اللاذقية إبان الحرب العالمية الثانية، كيف عاشوا الضيم والهوان والمرض والفقر والجهل، وكيف تعاملوا مع بعضهم بعض، وكيف يكافحون في سبيل العيش، وكيف ترتبط مصالحهم الخاصة بقضايا أمتهم، وكيف يتشاركون ويتعاضدون للمطالبة بالاستقلال وجلاء المحتل، انطلاقاً من “فارس” ذي السادسة عشرة من عمره ورحلة شقائه ومعاناته لتأمين لقمة عيشه، إلى “عبد القادر” الثائر المثقف الغير آبه بالموت، إضافة إلى “أبو فارس”  الطيب الذي استضاف في خانه عدداً من الأسر التي عانت الفقر والظلم والاضطهاد إبان الانتداب، و”أم فارس” التي دفعها الفقر والعوز للعمل في جرد التبغ، ترافقها جارتها الصبية العاشقة “رندة”، وهناك “مريم السودا” التي تبدو تارة عصبية المزاج جراء الفقر الشديد الذي تعيشه مع زوجها الإسكافي “نايف”، لكن حبهما يجعلهما يتغلبان على بؤسهما، ويشعرهما بالتفاؤل رغم كل شيء، مروراً بشخصية “أبو رزوق” حكواتي القصص الخيالية حول مغامراته في الأرجنتين، وصولاً إلى “الصفتلي” الذي يشقى في كسب رزقه بواسطة سنارة صيده، ومحمد الحلبي القصاب المناضل بصورة سرية وبشارة القندلفت الذي يعمل خادماً للكنيسة، وهو رجل سكّير.

لم يكتفِ “حنا” بعرض النماذج المكافحة المناضلة بل سلّط الضوء على نماذج من الشخصيات الانتهازية التي تسعى لتحقيق مكاسبها على كافة الأصعدة متمثلة في مختار الحي “جريس” الذي وصفه “مينا” بقوله: “كان جريس المختار ذئبا وحملا في وقت واحد يستطيع عند اللزوم أن يعكّر الماء ويتهم سواه بتعكيرها وقد كانت الحرب خير فرصة جاءت بعد انتظار ومنذ اليوم الأول صارحهم برأيه فيها وقال “الظروف استثنائية” وظل يردد هذه العبارة طوال خمس سنوات حتى حفظها الناس وأصبحوا إذا رأوه قالوا جاء “الظروف الاستثنائية”، وكانت هذه الظروف تعني السكوت عن كل شيء، الغلاء والبطالة وفقدان الخبز والكاز وإذا سكت الناس ارتاح هو واكتسب ثناء الذين أعلى منه وإذا اشتكوا نال هو اللطمة الأولى”.

يسجن “فارس” جراء ضربه لحسن حلاوة الفران وينقلون على إثرها من سجن اللاذقية إلى سجن حلب ليعيش فتى بين الرجال، وخلال  محكوميته يشترك “فارس” بمعركة تأييد لعبد القادر والسبب جرذ وجد في جرن العدس، فاحتفظ به الأخير وعرضه وقت التنفس على السجناء ليريهم أن إدارة السجن تقدم لهم بالتواطؤ مع متعهدي الأرزاق الجرذان بدلاً من اللحم، ويكتب عبد القادر عريضة ولكن مدير السجن مزقها وألقاها بين قدميه، إزاء هذا هيأ عبد القادر للإضراب بالتنسيق مع بقية نزلاء القواويش للمطالبة بحقوقهم، وحينما قوبلت مطالبهم بالرفض أضربوا عن الطعام، ولكن ما إن تسرب الخبر إلى الصحافة حتى اضطرت الإدارة لتحسين الطعام، لتكشّر الأخيرة عن أنيابها وتظهر غلّها وحقدها من خلال انتقامها من السجناء فترة التنفس واختلاقها الذرائع لشتمهم وضربهم أمام الجميع دون تمييز بين عجوز أو شاب.

يطلق سراح “فارس” بعد مضي سنة ونصف ثم يشرع بالبحث عن عمل، فيذهب إلى الست “بربارة” في النادي الذهبي، لكنه وجدها قد رحلت، ومن ثم تحول إلى زوجة معلمه الأرملة حيث قامت بإثارته وإغرائه حتى حقق رغبتها، من ثم باشر العمل بصفة مراقب في مصلحة الدفاع السلبي “مناظر على العمال”، ثم تحول إلى عامل بعد عقوبة له من معلمته بسبب تقصيره ليلاً معها.

وفي أثناء عمله التقى بشخص يُدعى “نجوم” كان قابله فيما سبق على النهر، لقاء خاطفاً، لكن هذه المرة جلسا مطولاً يفضيان لبعضهما صعوبة الحياة، ومعاناتهما في العمل، ثم أخبر نجوم فارس بأنه سيذهب إلى ليبيا للقتال منخرطاً في الجندية، حيث هناك المال، والطعام، والكساء، وحاول إقناع فارس بمرافقته إلى هناك.

انتهت الحرب العالمية الثانية وعمّت الأفراح في البلاد وأزالت النساء الطلاء الأزرق عن المصابيح والنوافذ وطافت مظاهرات مطالبة بالجلاء وبتحقيق الوعود التي قطعها الفرنسيون وتدفق العائدون من الحرب إلى بيوتهم ولم يكن “فارس” بينهم وبقيت أمه وحدها تقف على الشاطئ تنتظر عودة ابنها، لكن “فارس” قتل في الحرب التي لا ناقة له فيها ولا جمل و”رندة” حبيبته التي قرر الالتحاق بالحرب حتى يصبح لديه مال ويتزوجها قتلها المرض.

تعدّ هذه الرواية العمل الأول في الأدب الروائي للكاتب حنا مينا، والتي استغرق في كتابتها قرابة الثلاثة أعوام، وترجمت إلى اللغتين الروسية والصينية وتحولت إلى مسلسل سوري بالاسم ذاته، وهي بحق تستحق القراءة لما تميزت به سرد واقعي بسيط في تصوير آلام البشر وقت الحرب حتى يخيل لك للحظة أنك تشاهد ما ينبض بالحياة.

 

قراءة: ليندا تلي