ثقافة وفن

رؤيا “الأيّام” لدى طه حسين

 

 

أن تتحوّل العتمة المغرقة في سوادها إلى نور يعمّ الأرجاء، وتصبح تلك العتمة نقطة البدء نحو خلق عالم بأكمله، فذلك بحد ذاته هو أبلغ الفضل وأسماه..

عالم لامرئي لكنّه يكتنف بين جنباته الكثير من الرؤى، أبعاد وتجليات خاصة يستحيل على المبصر رؤيتها، لأنها تخص صاحب البصيرة وحده، مجبولة بروحه ومتماهية بإحساسه..

التحدّي الحقيقي لفقده البصر هو ما يميّز سيرة طه حسين، صراع دائم مع ذلك الطفل الصغير الذي فقد بصره بسبب جهل بات عدوّه الأول، ليحوّل كل حواسه إلى عينيين تريان، فبات يرى بأذنه ويده وبكلّ جلده، مع ذلك الإصرار المستمر على العطاء والبحث الدائم في ميادين الفكر والعلم والأدب، رغم كل التحديات التي كانت تعترضه وكأنّه إنّما خلق لذلك فقط..

استطاع حسين أن يجسّد هذه الرحلة بكل تفاصيلها عبر كتابه “الأيام” بأجزائه الثلاثة والتي كتبها عبر فترات متباعدة، حيث صدر الجزء الأول عام 1929م، والجزء الثاني عام 1939م، ثم استتبعه بالجزء الثالث، ليكتنز الكتاب كافة مراحل حياته منذ ولادته وطفولته وصولاً إلى دراسته في جامع الأزهر ثم سفره إلى فرنسا..

ما يميّز “أيام” طه حسين هو ذلك السرد النفسي العميق الصادق المشبع بالإحساس العالي لتفاصيل عاشها الكاتب وأثّرت به، ومنحت قلمه تجربة تستحق أن تروى، فالمصاعب التي واجهته ليست عادية، والتحديات التي مرّ بها ليست ككل التحديات، وخاصة ذكريات الطفولة المؤلمة وفقده البصر وما عاناه في تلك المرحلة من الوحدة والظلمة، وإحساسه بالغربة حتى وسط عائلته..

“حدث ذات يوم أن كان يجلس إلى العشاء فأخذ اللقمة بيديه، فأما إخوته فأغرقوا في الضحك، وأما أمه فأجهشت بالبكاء، وأما أبوه فقال بصوت هادىء حزين: ما هكذا تؤكل اللقمة يا بني، وأما هو فلم يعلم كيف قضى ليلته، وحرم على نفسه بعد هذه الحادثة طعاماً كثيراً، وأصبح يحب التستر بأكله دائماً”..

بقيت هذه الذكريات ملازمة له طيلة حياته لتؤسس لتلك الشخصية شديدة الإحساس قوية الإرادة، التي حملت على عاتقها مهمة الخروج من دائرة العجز والخوف نحو عالم العطاء والإنجاز ..

يشكل لقاء حسين بزوجته سوزان في فرنسا محطة جديدة وهامة في حياته للانطلاق نحو عالم أرحب، لتكون أكبر داعم له في حياته، وتتمكن من ترك أثرها الجميل في شخصيته بعد أن بددت عتمته، وأنارت طريقه، حيث خصص حسين لها فصلاً من كتابه تحت عنوان: المرأة التي أبصرت بعينيها..

احتلّ المكان حيزه الهام في “أيام” عميد الأدب العربي، فسرده غني بالأمكنة المختلفة التي تنقل بها في حياته وما يميزه قدرته الجلية على وصف تلك الأمكنة وتفاصيلها بإحساسه، وليس ببصره، وذلك بحد ذاته تميز واختلاف، فكان يصف كل مكان يحل فيه، لكن أبعاد أمكنته مختلفة تماماً عن أي أبعاد أخرى، أمكنة يراها بروحه ويتلمّس جنباتها وزواياها بإحساسه وحسب، لتجسد رؤاه وتعكس ما في داخله..

تميّز الكتاب بأسلوب حسين الأدبي الذي اعتمد على الوصف والتصوير من أجل إيصال الفكرة أو المعنى أو الإحساس المراد، وقد يلحّ على ذلك، فلا يفارق فكرته إلا وهو على يقين بوصولها للقارىء بلغة مألوفة تبلغ المعنى، ورغم أنه يتحدث عن سيرته، إلا أن حسين تعمّد تغييب ذاته في أيامه من خلال سرده الأحداث بضمير الغائب معلناً انفصاله الجزئي عن أناه، قد يكون مردّ ذلك توخيه الموضوعية ومحاولته الابتعاد عن الذاتية قدر الإمكان..

تمكّن طه حسين من تجسيد سيرته الذاتية في هذا الكتاب بأسلوب روائي خاص، حيث ضم كتابه العناصر الأساسية للرواية، إضافة لكونه سرد لسيرته، ليجد المتلقي نفسه أمام عمل أدبي تتماهى فيه السيرة الذاتية مع الرواية لتشكل نوعاً أدبياً متميزاً يغلب عليه عمق التجربة وصدق المشاعر، إلى جانب ما تحمله السيرة من إضاءات تستحق الوقوف عندها، مع تفرّد برؤى خاصة لا يراها إلا من يرى بعين قلبه..

 

هديل فيزو