مساحة حرة

الحوار.. على عتبة مجتمع ما بعد الحرب

بسام هاشم

ونحن نضع اللبنات الأولى لمجتمع ما بعد الحرب، علينا أولاً أن نردم الحفرة الهائلة من المفاهيم المضللة التي خلفتها أرهاط المرتزقة والمأجورين ممن باعوا واشتروا بحجة حرية التعبير؛ وعلينا ثانياً أن نعزز الثقة بقدرتنا على صناعة مستقبلنا، حتى ولو كان ذلك انطلاقاً من النقطة صفر، وأن نتمثل، أخيراً، حقيقة أن قدر سورية أن تبقى، وأن نبقى معها.. ونستمر!! لقد سجلت الحرب الهمجية زمناً قياسياً – وهي لا تزال متواصلة بألف شكل وشكل – ولربما ستطول طالما هناك حجر يمكن للغرب الأطلسي قلبه، ولكننا لن نتقبل حالة الحرب للأبد، ولن نعيش رهائن لأية حرب!!

إن الخروج من الدائرة المقفلة يتطلب قبل كل شيء التوافق على طبيعة التحدي الذي نواجهه ونعيش فيه، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الوعي الكامل بالحقائق الراهنة والاستعداد لتحمل تبعات التغيير المطلوب؛ فسورية على أبواب مغامرة قد تقذف بها بقوة في بؤرة عملية تحديث تاريخية، هادئة وراسخة وعميقة، ستكون مسؤولية وقرار الجميع.. وورشة عملاقة بمثل هذا الطموح، لا يمكن إطلاقها إلا من خلال حوار أفقي وعمودي، تبدو سورية الواقفة اليوم على “عتبة” التحولات هي أحوج ما تكون إليه.. حوار العقلانية الباردة والأعصاب الفولاذية والذهنية المنفتحة على تقبل المختلف.. حوار موضوعي قائم على الحقائق وليس على التهيؤات والترهات، على القياس الهندسي للمصلحة الجماعية وليس على تمارين سحب البساط من تحت أقدام الآخرين، على الثقة بالمستقبل المشترك وليس الهواجس والمخاوف والشكوك.

ومثل هذا الحوار، ورغم أنه كان دائماً هاجس الرئيس الأسد، إلا أنه شكل اهتمامه الأثير خلال الأسابيع الأخيرة، على الأقل. ولقد تجسد هذا الاهتمام من خلال عمليتي الاستئناس وتقويم الاستئناس اللتين شهدهما الجهاز الحزبي على مرحلتين: ما قبل وما بعد انتخابات الإدارة المحلية، وبمتابعة شخصية من السيد الرئيس؛ كما جرى تأكيد هذا الاهتمام خلال اللقاء الذي جمع سيادته بمدراء ورؤساء تحرير الوسائل الإعلامية والمحللين السياسيين، وتأكد أول أمس أيضاً في لقاء الطلبة المشاركين في الجلسات الشبابية حينما شدد بوضوح على حاجة سورية إلى “عشرات المخيمات الحوارية التي لا تتوقف، لأنّ الحوار هو أساس النجاح في أيّ عمل” لافتاً إلى أنّ “الهدف من الحوار هو توسيع الرؤية ووضع منهجية ومرجعيات في كلّ مجال من المجالات”.

ودون الخوض في الكثير من التفاصيل، ودون أي مبالغة، بوسعنا القول أن تجربة الاستئناس الحزبي، مثلاً، ومهما كانت عرضة للملاحظات، إلا أنها كانت بمثابة اختبار متأخر، وقبل فوات الأوان، للقدرة على التعلم الذاتي.. فرصة كان “البعث” أحوج ما يكون إليها للتحديق مباشرة في بنيته التنظيمية، والتمعن بعمق في تياراته ما تحت السطح، على أمل امتلاك القدرة الذاتية على مواجهة أية استحقاقات – كما يفترض بأي حزب – كــ “كتلة متراصة” تفوت على المتربصين إحداث أي اختراق من أي نوع، وفي أي ظرف!! ولقد نجح الحزب في امتحان الإصغاء للأصوات العالية وحتى في التقاط الهمس الخفي، وتعلم ممارسة فن ومهارات الحوار في بيئة غير توافقية؛ وهنا بالضبط، قد يكمن التحدي المعني بمواجهته: إن “البعث” القوي هو “البعث” “المسلح” بالحوار لمستقبل لا “احتكار” فيه، و”بعث” لا يعرف كيف يحاور نفسه هو “بعث” لا يعرف كيف يقنع الآخرين. وإذا كان لابد من التذكير، فإننا نحيل إلى حقيقة أن الحوار هو اللغة التي ألغاها “سوريون” عملاء وموتورون أهالوا معاول الهدم والتخريب على بلدهم، ودمروه بجهلهم وضيق أفقهم وغوغائيتهم، وأن القدرة على الاستماع كانت دائماً سمة سيكولوجية أساسية لإقليم بلاد الشام، وهذا الحوار أنقذ هذه المنطقة عبر مفاصل تاريخية عديدة، وحماها من الدمار والخراب، ومكنها من الصمود والبقاء في مواجهة موجات متتالية من التطرف والتعصب الفكري والسياسي والديني والمذهبي.

لقد تمكنت سورية من المقاومة، قبل وبعد الحرب، بفضل ما لها من رصيد ثقافي وحضاري يشكل الحوار والتفاعل الحيوي معينه الذي لا ينضب، وقد يحدث أن يحاول بعضهم العبث بهذا الرصيد، أو تشويهه، ولكن سورية المقاتلة هي التي أنجبت طفلة الكلمة، شام البكور، في عز الحرب، وتنجب أبطال الأولمبيادات والمسابقات البرمجية والروبوتات في العالم، وهي التي تنتج محاصيل قياسية من الزيتون والتفاح والحمضيات في ظروف إنتاج أشبه بالمستحيل. وهذا البلد الذي بات يوزع المازوت بالليترات والبنزين بالدور والكهرباء حسب برامج تقنين، يطلق خطوط الإنتاج في المدن الصناعية ويشغل معامل الأدوية، ويخطط للمشاريع الصغيرة التي تعتبر بمثابة “اشتراكية” مجتمعات القرن الحادي والعشرين.

من خلال الحوار، سنفرز الحقائق عن الأوهام، والأفكار الأصيلة عن تلك المسبقة والجاهزة، وسوف نتعرف إلى نقاط التلاقي التي تجعلنا من أكثر شعوب العالم استعدادا للعمل والإنجاز والتوحد، وستنمي حس العيش المشترك لدى شعب عظيم.. ما يميزه هو شدة ارتباطه بالوطن، وبالقائد.. المعلّم!!