“عطر ملاك” يوميات تختزل دقائق حياتنا وأحلامنا المتكسرة
نجحت القاصة سوسن رجب في شدّ انتباه القارئ وإقحامه في الحدث والمكان وجمالية المفردة من خلال إحدى عشرة قصة بين دفتي مجموعتها “عطر ملاك” التي اقتربت في بعضها من ملامسة الأزمة بشكل مباشر، وتطرقت بجرأة في أخرى إلى مواضع الفساد المتفشية في بعض مفاصل المجتمع، كما أفردت مساحة للحب الذي يتجاوز حاجز اختلاف الأديان، وشكلت المرأة المحور الأساسي فيها فبدت بصور متعددة داخل إطار المجتمع، وفي منحى آخر تميّزت بحرفية تقنية الكتابة القصصية من حيث الالتزام بالتسلسل المنطقي الواقعي للأحداث مبتعدة عن متاهات التخيّل، وكونها شاعرة وظّفت ملكاتها الشعرية في الصور والبحث عن مفردات غير متداولة بسبك متماسك للتراكيب والجمل الماضية بوتيرة الحبكة المحكمة مركزة على البيئة الزمانية والمكانية، واستفادت من تقنية التصوير الضوئي في تصوير شخوصها من خلال الأبعاد الثلاثة فبدا واضحاً البعد الجسدي في وصف تفاصيل الجسد وملامح الوجه، إضافة إلى البعد النفسي فمثلت الشخصية بكل طبائعها وأسهبت في التعبير عن الرغبات والعواطف المختلطة، وأظهرت موقعها الاجتماعي ضمن شرائح مختلفة داخل البيئة الأسرية والعملية ضمن البعد الاجتماعي.
كما أقحمت نفسها في عتبات السرد من خلال شخصية السارد بضمير المتكلم وتتماهى حيناً مع ضمير الغائب موجدة جسراً بين الفنون، فعرضت بعض نصوصها الشعرية المفتوحة كما في قصة “بين الحاجزين” وهي أجمل قصة لأنها تلامس الواقع وترتبط بيوميات الأزمة التي نعيشها كل دقيقة، وتدور حول عائلة اضطرت إلى النزوح من بيتها إلى منطقة بعيدة على طريق السويداء هرباً من النيران المشتعلة والقذائف العشوائية، في هذه الأوضاع تنقطع التغطية فلا يستجيب الهاتف الثابت ولا المحمول لنداء الحب، فتقرر سوسن أن تتجاوز كل الحواجز وتلتقي بحبيبها فارس قرب النهر على مقربة من الحاجز الأمني، وهي تحمل باقة الورد بعد أن أرسلت له رسالة عن طريق بائع الورد، وحينما يقترب منها فارس تصاب بشظية من شظايا القذيفة العشوائية فتمتزج الورود الحمراء مع دماء سوسن وتضعنا الكاتبة في قلق إلى أن تحمل نهاية القصة مفاجأة سارة حينما تستجيب سوسن لصرخات فارس “توقفت السيارات تجمهر المارة التفوا حول فارس وحبيبته بين يديه ،حملوها رفعوها عالياً تضرعاً إلى الله لإنقاذها شارك الكل بحمل جسدها الحار وفارس في إثرهم يحتضن نبتة الريحان ويبكي” ورغم تنوع القصص إلا أن فلسطين بقيت حاضرة في وجدان الكاتبة فأفردت لها مكاناً بين ثنايا المجموعة كما في قصة “من أجل يامن” وفيها يدور صراع داخلي بين حلم كنعان بأن يصبح كاتباً مشهوراً وبين متطلبات الحياة وأحلام حبيبته فيقرر أن يتخلى عن حلمه بلحظة يأس ويحفر حفرة صغيرة يدفن بها كتبه ومسوّداته، إلى أن يأتي يامن ابن أخيه الذي يحمل حلم عودة الجيل الرابع إلى فلسطين والمضي بطريق واحد لاغير، يعيده إلى صوابه، كانت يد صديقه عبقر الذي تمكن خلسة من إنقاذ المسوّدة ، ثم قال له: خذ هذه ستحتاجها من أجل يامن..” ونفاجأ بجرأة الكاتبة في بحثها موضوع استغلال الأنثى الجميلة التي تبحث عن فرصة عمل بعد تخرجها في الجامعة ترافقها الصورة الخيالية التي رسمتها في أحلامها إلا أنها تتكسر على صخرة الواقع، حينما تُعرض عليها فرصة مقابل أن تكون عشيقة فتظهر الكاتبة ردة الفعل الإيجابية من خلال رفضها والتعبير عن غضبها ،وقد تطرقت الكاتبة إلى الموضوع ذاته في قصة “وراء الباب العالي” ولكن بأسلوب مختلف تتناول فيه الفساد المتفشي عند بعض الأشخاص وأنهت الكاتبة القصة بالنهاية ذاتها مؤكدة بذلك على التمسك بقيمنا وعاداتنا “مرّت ساعة..ساعتان.. ولا يزال في انتظار، بينما هي ترشف قهوتها الصباحية في بيتها المتواضع وتقص حكايته لرفيقتها وكيف أوهمته أنها ستوافيه إلى موعده المنشود” وبرأيي أن الكاتبة كررت الموضوع ذاته في مجموعة واحدة لاسيما أن ردة الفعل ذاتها وإن اختلفت أجواء القصة، وفي منحى آخر نراها أبدعت في قصة “آخر العنقود” التي تطرح فيها فكرة التغيير من الداخل من المنزل بالابتعاد عن الفكرة التقليدية بالنظر إلى الفتاة على أنها متخصصة بخدمة إخوتها الذكور وتنظيف المنزل حينما تقف الأم في وجه أبنائها “منذ اليوم ..لست مستعدة أن أخسر ابنتي على كل واحد منكم أن يخدم نفسه بنفسه وأن يشارك في إنجاز أعمال المنزل أيضاً وإلا أنا التي سترحل من هذا البيت سأتركه لكم وسأغادر ومعي ابنتي إلى بيت أختي”
البعث ميديا – البعث