“طه حسين” رجل الاستثناء
> أعترف، أنني، وبقبول لم أعهده في نفسي، أُقبل على الكتابة حول عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، ونحن في ذكراه هذه الأيام، وذلك لأنني استشعرت ومنذ وقت بعيد أن هذا الرجل لم يكن رجلاً عادياً في الثقافة، والفكر، والأدب، والإبداع، والحضور، والمناددة، وإنما كان رجل الاستثناء، والندرة، والمناجزة، والمقارعة، والاشتقاق، والجرأة، والمضايفة، والتأثير في كل جوانب الحياة الاجتماعية، والتربوية، والأخلاقية، والثقافية، والفكرية، والإبداعية، والسياسية أيضاً.
د. طه حسين رجل اجتمع في ثقافته وشخصه حشد من الرجال أُولي العزم الثقافي والإبداعي معاً، وحشدت العلوم والمعارف أيضاً. ومن يقرأ سيرة الرجل، على امتداد أربعة وثمانين عاماً، سيشك شك الواثق من علمه ونفسه وحواسه بأن الرجل لم يكن أعمى، وأنا شخصياً من أهل هذا الرأي، لأنه كائن أبصر بعيون الناس، وبعيون الكتب، وبعيون أساتذته، وبعيون أحلامه التي لم تعرف الوقوف عند نقطة أو حدّ حتى في آخر أيامه. وهو رجل لم يكن من تكوين يديه وعقله وتشوفاته فحسب، وإنما كان تكويناً جمعياً اشتركت وتضافرت حوله ثقافات كثيرة منها العربية، واليونانية، والرومانية، واللاتينية، فصارت يداه تعددية لأيادٍ كثيرة، وصار عقله اجتماعاً لعقول كثيرة، وصارت ثقافته دارة واسعة رحبة للثقافات العالمية قديمها وحديثها.
مقت د. حسين التسليم، والتلقين، والاستسلام، والجهل، والغباء، والتواكل، والرضا بالحدود الدنيا من العلوم، والحسد، والاستظهار، والمشي في دروب الآخرين لإعادة إنتاجها من دون جديد أو تجديد. لهذا كانت كتبه كلُّها، ودونما استثناء، مثل زلازل ثقافية وفكرية، وذلك نشداناً لأمرين اثنين: الحداثة والإنسانية. ولعل أبرز كتابين شغلا الناس قراءً وأهل تعبير ونقاداً هما: (في الشعر الجاهلي) و(مستقبل الثقافة في مصر)، وبسبب هذين الكتابين احتشد المفكرون، وأساتذة الجامعات، وعلماء الدين، والأدباء، وأهل الصحافة، والعارفون بالتاريخ، وعلوم اللغة، والأنسنة، والآثار، وأهل السياسة في صفوف ثلاثة: في الصف الأول احتشد ناقدو طه حسين الذين اتهموه بالتفريط باللغة العربية (وهو واحد من أربابها) وبهدم التراث العربي (وهو واحد من باعثي الأصيل فيه)، وبالجرأة على القرآن الكريم (وهو محفوظ في صدره)، وكل هذا لأنه طرح فكرة للمناقشة فحواها أن الشعر الجاهلي منحول، وأنه كُتب ما بعد الإسلام، ونسب إلى أهل الجاهلية، ولم تكن أفكاره هذه إلا من أجل أن يقوي منهج البحث والاستقصاء، والشك والمعارضة، أي من أجل أن يكون المنهج النقدي رفيقاً للدارس والباحث كي لا يقع فريسة التسليم الأعمى والمطلق والمغلق في آن. وفي الصين الثاني والثالث احتشد مناصروه والحياديون أهل الفرجة.
أما كتابة الآخر (مستقبل الثقافة في مصر) فقد عوقب عليه نقدياً، فجرى حبر كثير، وقامت معارك لا هوادة فيها هدفها دك فكرة د. طه حسين القائلة: (علينا أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً، ولنكون لهم شركاء في الحضارة)، وهو بذلك يتسلح بفكر محمد علي باشا الذي أراد تحديث المجتمع المصري وفقاً لترسيمات المرآة الغربية من دون غمط الهوية والثقافة والشخصية المصرية.
لقد أراد طه حسين الروائي، والقصصي، والباحث، والفيلسوف، والمفكر، والتربوي، واللغوي، والسياسي، أن يكون حدثاً ثقافياً، وجهة استنارة ومعرفة ليس في زمنه فحسب، وإنما في جميع الأزمنة الثقافية القادمة أيضاً. ومع أن هذه الفكرة مدركة من أهل المعرفة عامة إلا أننا، وحتى هذه الساعة، لم نستثمر ثقافياً وإبداعياً بعد التجربة الكبيرة، والكبيرة جداً التي أسس لها د. طه حسين، والتي أثثها بالمعرفة الحقة، وبالنداء العالي: اعملوا باليدين الاثنتين، دعوا التقليد، وخذوا بالتجديد! لقد كان طه حسين قمر الثقافة العربية الذي ازوررنا عنه نهاراً فشاغلناه بالحروب الصغيرة في حياته، وغفلنا عنه ليلاً فنسيناه عامدين متعمدين طيَّ خدر كذوب وفي الأمرين خطل ثقيل!
حسن حميد
Hasanhamid55@yahoo.com
البعث