الاستحقاق رقم واحد
ناظم عيد
لم تقلل نفحة الكآبة التي تعترينا ـ نحن السوريين ـ من حضور كرنفالات الفرح بيننا وفي دواخلنا، ولعلنا الوحيدون في هذا العالم من يستحقّون وسام البراعة في تحويل المآتم إلى أعراس، ومجالس العزاء إلى مناسبات، إصرار على الدفع بمزيدٍ من قرابين وطن.
في سورية زغردت أمهات شهداء ظنّتهم الأعراف القديمة ثكالى، فكنّ منارات دفء، ومبعث تفاؤل أكيد، بأن لا مكان للهزيمة في وطن لا ترجمة فيه للموت إلّا الحياة والتجدّد. وفي سورية، ولا نعتقد في سواها، بدت أرامل من قضوا منافحةً عن العزّة والكرامة، لا كالأرامل بل مدارس احترافية تصوغ براعم اليوم مغاوير الغد، واليتامى استبدلوا البكاء بصراخٍ يعلن العزم على الانتقام من كلّ مصّاصي الدماء في هذا الكون، ممن خلناهم “دراكولات” أسطورية وليس إلّا، فوجدناهم حقيقةً موجعة قذفت بهم عصابات كونية للتشفي ممن أجاد العيش رغم أنوف تجّار الموت والخراب.
عن كل أمهات وأرامل ويتامى شهداء بلد ينشد الصمود نسأل: ماذا فعلنا وماذا نحن فاعلون؟. نعم أكرمنا وقدّمنا ومنحنا، لكن على عجالة، ولعل وزر أزمتنا الثقيلة هو ما أملى وحكم، لكن دعونا نسأل بعضنا البعض: عن أي مأسسة نحضّر لها لاحتضان ودائع ثمينة تركها لنا من كانوا حاذقين في احتضان تراب وطنهم، فاحتضنهم في عناقٍ بات جزءاً من الأبديّة الأكيدة، ومن برعوا في توثيق وديعتهم بضمانات قوامها الدم ثم الدم، فأمست أمانة لا وديعة… ماذا نخبّئ للإيفاء باستحقاقات الأمانة؟.
نتحدّث بضمير المتكلم لنكون مقبولين في الوسط التنفيذي الشديد الحساسية والتحسس هذه الأيام، وحسبنا أن يكون حديثنا لطيفاً ويُفهم على أننا لا ننتقص ولا نشك ولا نقلل من جهدٍ مبذول، لكننا فعلاً أمام استحقاقٍ يجب ألّا يكون قبله استحقاق في المرحلة القادمة، مع بوادر انحسار ثقل الأزمة وتقهقرها أمام انتصارات الجيش العربي السوري، وعلى أيدي مقاتلين أبوا إلّا أن يكونوا أبطالاً في زمنٍ عزّ فيه مثل هذا اللقب المشرّف.
بدأت تتسرّب أحاديث رسميّة عن إعادة الإعمار – وهو استحقاق ملحّ– لكن ثمة شركات يسيل لعابها تلقائياً بمجرد الحديث عن الاستثمار في إعادة الإعمار، فيما لا أخبار عن استراتيجية حكومية تتعلق بشيء ما يخصّ أُسر الشهداء، رغم أن هذا الملف هو الأصعب لأنه غير قابل للاستثمار، وهو الأكثر إلحاحاً، بل والأعقد بين ملفات ما بعد الأزمة، فلدينا أعداد هائلة من أبناء الشهداء بحاجة إلى رعاية وتعليم وفرص عمل ووو.. تنوء بهم المؤسسات القائمة حالياً. هؤلاء بحاجة إلى مدارس خاصة بهم في كل محافظة وليس فقط في دمشق، وبحاجة إلى وظائف أو شواغر من النوع الذي يندرج تحت عنوان الشواغر المحجوزة على شكل نسبة ثابتة من إجمالي سياسات التشغيل الحكومية “على طريقة شواغر المعوقين”.
سلسلة الاستحقاقات والمطالبات المفترضة تطول وتطول ويجب أن نكون جاهزين لإيجابها أو على الأقل بدأنا برسم ملامح سيناريوهات تضمن ذلك. ما الذي خص به الاتحاد النسائي العام نساء الشهداء مثلاً.. هل من رؤية؟، ثم ما الذي دفعت به واقترحته هيئة شؤون الأسرة، أو وزارة الشؤون الاجتماعية، ويخدم هكذا ملف لا يقبل المعالجات الرخوة؟.
قد يكون في جعبة الحكومة شيء ما نجهله وهذا ما نرجوه فعلاً، وإن كان من شيء، فلماذا التحفّظ عن الإعلان وترك المجال مفتوحاً لـ “أطنان” الهواجس المشروعة.!؟.