«رماد البنفسج».. ارتجال جماعي في فضاء المعهد العالي
ينهالون على الجمهور محرضين العيون كي تلاحقهم بحركاتهم البيضاء والعفوية، لينساق الحضور ورائهم داخلين مدرج المسرح والموسيقى بإيقاعٍ ساحر يلغي كلّ اهتمام جانبي، وهكذا البداية التي تزفنا بمشاهدها المرتّبة من قصّة مريض فصامي إلى قصّة معافى فصامي وبالعكس، وتمتزج المشاهد بتفاعل واضح بين شخصية الممثل وعناصر مُختارة من الحضور، وهنا تبدو اللعبة أخطر لا سيما وأنّ بعض الحضور يبقى على جمود إنّ لم تسعف الممثل كلمة غريبة وذكية وساحرة فيترنح بعدها جمود المتلقي، ولكن الضحكات تعلو صدى المسرح فعدم توقع الحضور لما سيحدث يجعله متشوقاً بفرح لكلّ حركة غريبة، وهكذا تدور أحداث اللعبة بين مشهدٍ وآخر لنجد الكثير من لوحات الانتقاد الواقعية والألم الداخلي الذي يجسده هؤلاء الفصاميون، ولكنّهم في العمق نماذج مجتمعية عانت من الحقيقة وقسّوة الحياة، ولذلك يظهر صدق الموقف فتلامس حالة الجنون في وجهها الآخر حالة الطفولة والبراءة في بثّ العاطفة الداخلية، ويتجه العرض نحو محاولات الهروب والجنون في تنفيذها مع إسباغ التطرف في وصف المشهد الذي قد يتصرفه العقلاء في حياتنا اليومية.
اعتدنا أن نكون على موعدٍ مع مشاريع التخرج المسرحية الخاصة بطلاب السنة الدراسية الأخيرة في نهاية كلّ فصل دراسي، إلا أنّه ولا يوجد اعتيادٌ في اللغة الفنية الحقيقية؛ فيتم كسر العادة التي قد يعتقدها المتلقي سائدةً ولا يحكمها التغيير! وهذا ما فاجئنا به طلاب السنة الأخيرة للمعهد العالي للفنون المسرحية في بداية فصلهم الدراسي الأوّل ليقدموا عرضاً احترافياً أعدّوا له من الجهد والوقت الشيء الكثير، بالرغم من الصعوبات والعثرات التي فرضت نفسها بقوة أحياناً، معلنين حالة الاستنفار والتحدي كي ينتهوا بسلامٍ منه، ومنطلقين لمشاريع تخرجهم الجديدة في نهاية الفصلين الأوّل الحالي والثاني القادم، والمشروع ارتجالي جماعي يروي قصص فردية مجتمعة في مستشفى الأمراض النفسية افتراضاً، لكنه يحمل إسقاطاتٍ حادّة على النفس والواقع، ولدى سؤالنا لعميد المعهد العالي للفنون المسرحية الدكتور سامر عمران عن العرض بحكم أنّ السينوغرافيا والإخراج كانت له فقال: أنا ضدّ منطق التقاليد الصارمة بل مع التغيير شرط أن يكون لمصلحة الطالب بغاية علمية وأخلاقية، ولذلك قررنا وضع مشروع التخرج في بداية السنة الدراسية، وهذا ما يوفر لديّ أكثر من خيار لرؤية الممثل كيف هو بشخصيات كثيرة، وملاحظة إمكانياته الجديدة، وتعمدّت المشروع الارتجالي بدايةً وبعدها مباشرة سيكون معهم مخرج جديد ونوع آخرمن الفنن، وكذلك في نهاية العام، ولكن رماد البنفسج هو فرصة للعمل بين أقسام المعهد ككل من الصوت للتصميم للديكور للممثلين فالورشة جماعية، وبالتالي ينتج عنه التخفيض في ميزانية العرض وغير ذلك. من جانب آخر عملت على تعميق الشخصيات لتأخذ شكل مركب أكثر مع مراعاة العدالة بمساحة كلّ ممثل في تقديم دوره، وهذا ما جعل للاحتكاك بالجمهور نصيب أكبر.
يحتوي العرض على شاشة تمنح الحضور بعداً إضافياً في رسم صورة كليّة للمسرحية وحكايتها، فتأتي مع صوت مايكروفون المشفى الذي يقطع نشاط الفصاميين الهاربين بخيالهم ليعودوا إلى واقع المشفى بقوانينه الصارمة معللاً سبب اشتراك المرضى منذ بدء العرض بكلماتٍ مثل الكهرباء والتكهرب والتجسس والنوم الطويل وغيرها.
رئيسة قسم الرقص نورا مراد والتي تعاونت فنياً مع العرض كان لها رأيٌّ خاص بالممثلين الجدد فقالت: الممثلين وجهدهم المبذول يستحقّون الثناء عليه، ومقارنة بالعام الماضي فقد وجدتهم في عملهم أكثرنضوجاً في المستوى الفني والتعامل مع الفضاء والأداء، وقد تسنى لي معهم أن أتابع العرض وانتقده لإضافة بعض الجماليات وتعديل بعض الأمور ضمن رؤية المخرج سامر عمران، ومن أهم ما يمكن أن أعلق به أنّهم لم يتعاملوا مع الموضوع وكأنّه امتحان بل دخل كلّ واحدٍ منهم بعمقٍ أعلى داخل شخصيته وأغنوا تفاصيلها بشكل أبعد، بالإضافة لتكثيف العروض ومساحة كلّ منهم، وأنا متفائلة جداً بهؤلاء الشباب المحبين لعملهم.
وبقي أنّ نذكّر بأنّ الممثلين هم حسن دوبا، رهام قصار، ريمي سرميني، كنان حميدان، مصطفى القر، مغيث صقر، مهران نعمو، مي السليم، هلا بدير، وولاء العزام.
وفي الختام لابدّ من الإشادة بقوة العروض المسرحية التي يقدّمها المعهد العالي للفنون المسرحية ليبقى جزءاً لا يتجزأ من الحركة المسرحية الناجحة بامتياز في سورية، ويضيف عميد المعهد الدكتور سامر عمران في ذلك: ليس كلّ التجارب في المعهد أو في الوسط الفني ببوتقة واحدة، فهناك عروض قُدمت كنموذج للإبداع وهناك عروض أخرى كانت سيئة، فلا يمكن تقديم النموذج المثالي دائماً، لكن بالعموم عروض المعهد تأخذ مكانتها لتكون بوصلة فنية إبداعية حقيقية، وهذا جزء من طبيعة عملنا فهنا المخبر الذي نجري فيه التجارب، وبالتالي نأمل أن نكون جزء من عملية البحث الجادّ.
البعث ميديا || عامر فؤاد عامر