الأيقونة السورية…فن أصيل
تأتي فرادة الأيقونة السورية من كونها مهد للفن الأيقوني وعنوان انطلاقته بكل ما تحمله من رموز ودلالات، فالأيقونة جزء من تراث هذه الأرض التي كانت على مر العصور مهد الحضارات،وانطلاقاً من أهمية هذا الفن جاءت محاضرة الباحثة الهام محفوض “الأيقونة السورية ..فن عريق ” في المنتدى الثقافي العراقي التي استهلتها بالقول: إنه في ظل ما تتعرض له بلدنا من تعديات ومحاولات لفصل الإنسان السوري عن تاريخه وإرثه الحضاري الغني، أضحى الاهتمام بما نملك من آثار تدل على هوية وطننا ودراسة ملامحه الحضارية والثقافية، والكشف عن سمات إبداعاته وإنجازاته على صعيد المعرفة الإنسانية ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى، ففي بلدنا تتالت الحضارات وحمل الإنسان السوري شعلة المعرفة، حيث عرضت محفوض تعريفات متعددة للأيقونة فقالت: تُجمع الوثائق التاريخية أن مصدر كلمة أيقونة يوناني وهو مشتق من فعل Eiko والتي تعني تشابه أو تماثل.
كما عرّفها المطران جورج خضر بأنها كل صورة سواء صنعت بالدهان أو الفسيفساء أو من مواد أخرى وفي العصر الحديث أصبحت الأيقونة هي اللوحة الملونة القابلة للنقل ولاسيما الخشبية والتي تمثل قديسين وقديسات، وأورد المعجم الموسوعي للمصطلحات الثقافية أن الأيقونة هي صورة الوجه.
وأضافت محفوض: بعد صراع وجدل عنيف حول الأيقونة نشأت حركة تحطيم الصورة، مما دعا الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية إلى تبني نظرية تقديس الأيقونات، فسنت قانوناً كنسياً ومجموعة من الأسس التقنية التي تضبط أشكالها الفنية، وتعتبرها جزءاً كنسياً أساسياً تحظى بتقديس شعائري خاص، كما استعملت الأيقونة في المحيط اليوناني والروماني كوسيلة تعليمية للإعلان عن القصد الإلهي واستمر ذلك في الكنيسة الشرقية إلى اليوم.
وتعود نشأة فن الأيقونة السوري إلى عصر ما قبل التاريخ، وحول ذلك رأت محفوض أن اهتمام الإنسان بالفن ولد لديه أسئلة وأفكاراً أدت إلى سعيه لتجسيد مشاعره ومعتقداته عبر فنون النحت والرسم والتصوير الجداري منذ عصور ما قبل التاريخ، وكانت هذه الرسوم معبرة عن مضامين ميثولوجية في أماكن تتسم بالرهبة، وما يقدمه موقع المريبط في حوض الفرات يعبّر عن الجهود الأولى في الفن، والتي تعتبر الأقدم في الشرق القديم.
وتابعت محفوض: يجمع الباحثون على أن سورية كانت المهد الأول للأيقونة التي بدأت في النشوء في أواسط القرن الثالث الميلادي، وكانت مدينة دورا أوربوس صالحية الفرات، هي الموطن الأول لهذا الفن حيث عُثر على أعمال فنية ملونة تصور مشاهد من قصص الإنجيل فما وجد يشكل الجذور الأولى لفن الرسم المسيحي، ويقدم الأصول الحضارية الباكرة للنهضة المسيحية.
وعن مدلولات الأيقونة تحدثت محفوض: لكل أيقونة مدلولات عقائدية وتعليمية تنعكس من خلال عناصرها (الخلفية – الوجه- الأنف – الأجساد وغيرها) ويجب ألا يفوت الأيقونوغرافي المكانة التي تشغلها الألوان في عمله، والدلالة التي تتركها في عين متلقيها، حيث تبدو الصورة المقدسة بمظهرين: مظهر خارجي طبيعي يبدو للعيان، ومظهر رمزي سري يحاكي النفس وتبرز معانيه من خلال الألوان التي لها لغتها الرمزية والتصوير ذو الدلالة المعنوية.
وبما أن موضوعات الأيقونة متعددة أوضحت محفوض أنها إما صور مستقلة للأشخاص كالرسل والسيدة العذراء والسيد المسيح، أو صور للقديسين وكذلك صور مركبة للمشاهد وصورة التعليم اللاهوتي، بالإضافة إلى آيات من الكتاب المقدس فلا فرق بين المدلول الحديث والقديم للأيقونة لأن جماليات هذا الفن واحدة وكنهه الروحي واحد.
وتحدثت محفوض عن تأثير الفن السوري بالأيقونة بشكل عام فقالت إن نتائج المقارنة بين الرسوم المسيحية الأولى بشكل عام مع ما هو موجود في رسوم المدافن التدمرية يؤكد وحدة التأثير المستوحى في الأسلوب والتقنيات الفنية المتبعة في سورية وصولاً إلى رسم الأيقونات التي هي واحدة تقريباً.
كما ذكرت محفوض أن الأحداث السياسية التي اجتاحت المنطقة أدت إلى فقدان العديد من الرسوم والأيقونات التي استقر معظمها في المتاحف العالمية، ولا نصادف منها إلا رسوماً جدارية توزعت بالأديرة والكنائس السورية التي سلمت من يد الخراب والتدمير، كالرسوم الجدارية في دير مار موسى الحبشي ودير مار الياس ودير مار يعقوب وغيرها ولعل أهم الرسوم الجدارية التي جسدت فن الأيقونة من حيث المواضيع والأحداث المصورة قد رسمت مابين القرنين 11-13 م.
وأوضحت محفوض: مما لاشك فيه أن إخلاص الفن السوري للواقع قد ساعد الكثير من الباحثين ومؤرخي الفن، في قراءة وفهم الرسائل الحضارية التي وصلت عبر الرموز والثياب والأدوات، فهذا الفن الذي نشط في مطلع القرن 17 ميلادي يعتبر بداية ازدهار روحي رافقه ازدهار فن الأيقونة، وانبعاثه من جديد بالإضافة إلى نشأة مدارس فنية محلية ذاع صيتها كمدرسة يوسف المصور وعائلته.
وعن خصوصية الأيقونة من الناحية الروحية أشارت محفوض إلى أن معظم الأبحاث أكدت أن الأيقونة وسيلة تعليم بالصورة والشكل واللون، ولا يفتش راسم الأيقونة عن الجمال الفني، بل يستخدم الجمال ويلعب على وتر عبقريته لكي يثير الانفعالات الروحية ويحرك العواطف الكامنة، مولداً الإيمان في قلب المشاهد والمصلي معاً، فسر الأيقونة يكمن في استخدام الفنان لعبقريته التي تستوحي الجمال في الفن، دون أن ينشغل فيه وتبرزه حتى يظهر، بقدر ما يثير في النفوس من مشاعر تحرك الإيمان في قلب مشاهدها، وهذا ما يحرص عليه الأيقونوغرافي الذي يخرج لوحته في غمرة طقس تعبدي يسمو به إلى حالة من الاستبصار الروحي.
وختمت محفوض بالقول: إن الأيقونة ظهرت كفن من أجل العون الروحي وليس من أجل الفن كفن، والفن المسيحي السوري فن أصيل ومتجذر في الأرض السورية التي كانت دوماً مركز الثقل وموطن الالتقاء ومخبر الفنون لكل الحضارات والأديان عبر تاريخها الطويل.
البعث ميديا – البعث