لواء اسكندرون المحتل حاضراً في وجدان وعقول السوريين
تحل الذكرى الرابعة والسبعون لجريمة سلخ لواء اسكندرون عن وطنه الأم سورية وضمه بشكل تعسفي وكنوع من الرشوة إلى تركيا بموجب اتفاق ثلاثي مع فرنسا وبريطانيا مقابل وقوفها إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الثانية ولكن ذكراه لا تزال خالدة في عقول السوريين ووجدانهم كأرض عربية سورية محتلة لا بد أن تعود إلى أصحابها مهما طال الزمن.
ويقع لواء اسكندرون شمال غرب سورية ويطل على البحر المتوسط ممتداً على مساحة 4800 كلم مربع ويسكنه اليوم أكثر من مليون نسمة ولم تكن تبلغ نسبة الأتراك فيه عام 1920 أكثر من 20 بالمئة وقد حرره العرب في العام 16 للهجرة من الاحتلال البيزنطي وأعادوا إليه هويته وعمروا أرضه وحصنوه كخط أول في مواجهة الروم البيزنطيين وبقي قلعة وثغرا عسكريا متأهبا في مواجهة محاولات الغزو الخارجي إبان ضعف الدولة العربية الإسلامية المركزية في بغداد.
احتله الصليبيون خلال غزوهم للمشرق العربي من عام 1096 حتى عام 1291 إلى أن حرره العرب بعد تحرير القدس بقيادة صلاح الدين الأيوبي بعد معركة حطين عام 1187 وبعد سقوط الدولة الأيوبية غزا العثمانيون المنطقة العربية وضموا اللواء إلى ولاية حلب وأصابه ما أصاب البلاد العربية نتيجة الاحتلال العثماني من فقر وتخلف ولم ينقطع عن عمقه في مصر والشام بل تواصل مع كل الثورات التي قامت على العثمانيين من الأمير فخر الدين المعني الثاني إلى إبراهيم بن محمد علي باشا إلى أن انطلقت الثورة العربية الكبرى عام 1916 فشارك أبناؤه في مقاومة المحتل العثماني وطرده من المشرق العربي.
وقع اللواء بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى تحت رحمة اتفاقية التقسيم سايكس بيكو التي تمت بشكل سري بين فرنسا وبريطانيا عام 1916 وكان من نصيب الاحتلال الفرنسي فاعترفت الدولة العثمانية بالهزيمة وأقرت بعروبة اللواء في معاهدة سيفر في 10 آب عام 1920 التي وقعت مع قوات الحلفاء.
وضعت فرنسا وبريطانيا يديهما على الشرق العربي واستمرا برسم حدوده وفق المتغيرات في تلك المرحلة وبعد نشوء الدولة التركية الحديثة عام 1923 وقعت فرنسا معها اتفاقية لوزان في نفس العام تنازلت بموجبها عن الأقاليم السورية الشمالية فانتقل خط الحدود السورية التركية باتجاه الجنوب وبقيت الأطماع التركية قائمة في اللواء الذي استقل إداريا وأطلق عليه لواء الإسكندرونة حتى صدور قانون التنظيمات الإدارية في العاشر من كانون الثاني عام 1936 فأصبح محافظة سورية كبقية المحافظات وبقيت كلمة لواء هي الغالبة في الاستعمال.
وفي عام 1936 اندلعت مظاهرات ضد فرنسا دامت أربعين يوماً في جميع المدن السورية للمطالبة بالاستقلال فأذعنت فرنسا وعقدت مع سورية في 9 أيلول من العام ذاته معاهدة تضمن الحرية والاستقلال لسورية بما فيها اللواء ودخولها في عصبة الأمم.
ورفضت تركيا إبقاء اللواء ضمن الدولة السورية وطالبت بتحويله إلى دولة مستقلة شأن دولتي سورية ولبنان وإنشاء اتحاد فيدرالي بينها ورفعت القضية إلى عصبة الأمم فيما خالفت فرنسا صك الانتداب الذي يمنع الدولة المنتدبة من التنازل عن أي جزء من الأراضي المنتدبة عليها. وفي كانون الأول عام 1936 بحثت عصبة الأمم الطلب التركي الذي زعم أنه يريد فقط حماية حقوق الأتراك الذين يتعرضون للاضطهاد والحفاظ على حريتهم في اللواء فاقترح رئيس مجلس العصبة إرسال ثلاثة مراقبين دوليين وتمت الموافقة على الاقتراح رغم معارضة تركيا له.
ووصلت في الشهر ذاته لجنة المراقبين إلى أنطاكية وطافت في مختلف المناطق والنواحي وتعرفت على السكان واجتمعت مع وجهاء الطوائف وزعماء الهيئات السياسية والدينية واستمعت إلى مطالبهم وفي شهر كانون الثاني من عام 1937 نظم العرب والأرمن في مدن أنطاكية والريحانية واسكندرون وبلدة السويدية مسيرات شعبية حاشدة أمام اللجنة حملوا فيها الأعلام السورية وطالبوا بالمحافظة على ارتباط اللواء بوطنهم سورية.
وعادت اللجنة الدولية إلى جنيف بانطباعات أن الأتراك لا يشكلون أكثرية السكان وأن الغالبية العظمى من سكان اللواء بما فيهم نسبة كبيرة من الأتراك يعارضون ضمه إلى تركيا وأن الأتراك ليسوا مضطهدين من جانب السلطة المحلية.
واستمرت الاتصالات بين فرنسا وتركيا بوجود لجنة المراقبين الدوليين في اللواء مع بدء التوتر في القارة الأوروبية مع ألمانيا النازية وأجرتا محادثات ثنائية انتهت في 24 كانون الثاني عام 1937 باتفاق على جعل اللواء منطقة مستقلة ذاتيا في نطاق الوحدة السورية على أن تكون منزوعة السلاح وقدمت اللجنة تقريرها إلى مجلس العصبة متضمناً مقترحاتها التي يجب أن يبنى عليها نظام اللواء وقانونه الأساسي فأقره المجلس في جلسة 29 كانون الثاني عام 1937 وعهد إلى لجنة خبراء صياغة النظام والقانون الأساسي.
وشكلت عصبة الأمم لجنة من ستة خبراء أعدت نظاما عاما وقانونا أساسيا للواء من 55 مادة وتم إقرارهما في جلسة 29 أيار 1937 وحدد يوم 29 تشرين الثاني 1937 موعداً لبدء تنفيذهما وينص هذا النظام على أن يكون اللواء منطقة مستقلة في أمورها الداخلية وتدار أمورها الخارجية من قبل سورية ويقوم الممثلون الدبلوماسيون والقناصل السوريون في الخارج برعاية مصالحها وتقوم إدارة جمركية موحدة بين سورية واللواء ويكون لهما نظام نقدي واحد وخدمة بريدية موحدة فيما يكون لمجلس عصبة الأمم سلطة الإشراف على شوءون اللواء عن طريق تعيين مندوب من الجنسية الفرنسية.
ونص الدستور المقر من عصبة الأمم أيضا على تشكيل مجلس نيابي يتألف من أربعين عضواً ينتخبون لمدة أربع سنوات ويجري تسجيل الناخبين في أول انتخابات من قبل لجنة دولية يشكلها مجلس العصبة.
وأعلنت تركيا وفرنسا أمام مجلس عصبة الأمم قبولهما بالتسوية الجديدة كحل نهائي لوضع لواء اسكندرون وعلى الرغم من إعلان تركيا ذلك نصرا لها إلا أن أطماعها استمرت فيما قام المفوض السامي الفرنسي بإنزال العلم السوري إيذاناً ببدء تطبيق نظام اللواء فقوبل بمظاهرات حاشدة من قبل أبناء اللواء باعتبار أن نص النظام يشير إلى أن اللواء جزء من سورية التي تدير شؤونه الخارجية.
وفي كانون الأول عام 1937 وضع قانون الانتخابات وفق المطالب التركية وبدأت السلطات التركية حملة من الضغوط والتهديد والرشوة والإغراء بالاتفاق مع السلطة الفرنسية التي سمحت لها بإدخال عشرات آلاف الناخبين من تركيا إلى اللواء بعد تزويدهم بهويات مزورة.
وفي نيسان 1938 وصلت اللجنة الدولية التي شكلها مجلس العصبة إلى اللواء لإجراء الانتخابات فيه وفي أيار عام 1938 حقق العرب في اسكندرون وقرق خان وأنطاكية تفوقاً على الأتراك في عدد الناخبين المسجلين ومع وصول الأمور إلى هذه المرحلة الحرجة لتركيا تم الإعلان عن اتفاق سري كان قد عقد بين فرنسا وتركيا بجنيف في آذار من نفس العام تعهدت فرنسا بموجبه ضمان أغلبية تركية في مجلس اللواء المقبل وبما أن التعهد لم ينفذ قامت تركيا بحشد قواتها على حدود اللواء وأنذرت فرنسا باحتلاله إن لم تف بتعهداتها.
وبسرعة فائقة قامت فرنسا بإجراءات لتنفيذ تعهدها هذا فأعلنته صراحة على لسان روجيه غارو مندوبها في اللواء في اجتماع عقده في دار بلدية أنطاكية لزعماء الطوائف العربية والأرمنية الذين رفضوا طلبه فقامت فرنسا بإعلان الأحكام العرفية والطلب إلى اللجنة الدولية وقف عمليات تسجيل الناخبين بحجة اضطراب الأمن فاستجابت اللجنة لطلبها واتخذت فرنسا خلال هذه الفترة إجراءات تعسفية عدة تضمن غلبة العنصر التركي.
وفي 9 حزيران عام 1938استقال المندوب الفرنسي غارو من منصبه وغادر المنطقة معلنا لأصدقائه أن ضميره لا يسمح له بتنفيذ سياسة دولته في اللواء فأسندت فرنسا وظيفته إلى الكولونيل كوله وعندما استأنفت اللجنة الدولية أعمال تسجيل الناخبين قامت الميليشيات التركية بتطويق مراكز التسجيل في الأحياء والقرى العربية ومنعت الناخبين من الوصول إليها واعتقلت كل من يحاول ذلك فاحتجت اللجنة الدولية على هذا الاجراء وارسلت في 13 حزيران عام 1938 برقية الى مجلس العصبة أبلغته فيها عن أعمال الضغط التي مارستها السلطة ضد العرب والتي ترمي الى ارغامهم على التسجيل في القائمة التركية او التخلي عنه.
وعلى اثر موقف اللجنة الذي يفضح تآمر فرنسا وتركيا على حرية الانتخابات وتزويرها لمصلحة الأتراك أعلنت فرنسا وتركيا قطع علاقاتهما مع اللجنة وطلبتا من مجلس العصبة استدعاءها لكن اللجنة استمرت في أعمال تسجيل الناخبين فأقدمت السلطة على توقيف مخاتير القرى وممثلي العرب لدى مكاتب التسجيل وأوقفت الزعماء والشباب العرب وملأت السجون بالمعتقلين فاضطرت اللجنة الدولية إلى إغلاق مراكز التسجيل وأرسلت تقريراً مفصلاً إلى السكرتير العام لعصبة الأمم بالانتهاكات الفرنسية والتركية.
وفي 23 حزيران عام 1938 اتفقت فرنسا وتركيا على ادخال 2500 جندي تركي إلى اللواء بحجة المشاركة في حفظ الامن مع القوات الفرنسية وفي 29 حزيران عام 1938 غادرت اللجنة الدولية اللواء إلى لبنان وأعدت تقريرها النهائي في 150 صفحة ذكرت فيه جميع الأعمال التي قامت بها والنتائج التي حققتها في التسجيل والتي أظهرت تفوق العرب عددياً على الأتراك وذكرت أعمال الضغط والإرهاب التي مارستها السلطة الفرنسية ضد العرب ورفعت تقريرها إلى السكرتير العام لعصبة الأمم في 30 تموز 1938.
وفي الشهر ذاته أخذ شبح الحرب يخيم على أوروبا فوقعت فرنسا وتركيا معاهدة صداقة بينهما تضمنت تعهد الطرفين بأن لا يدخل أحدهما في حلف ضد الآخر وأن يعترفا باستقلال اللواء ويطبقا النظام الموضوع له من قبل عصبة الأمم على أن يضمنا تفوق العنصر التركي فيه وقاما في 18 تموز عام 1938 بتشكيل لجنة مشتركة للإشراف على الانتخابات بعد طرد اللجنة الدولية حيث أعادت هذه اللجنة النظر في الجداول الانتخابية وألغت قيود الآلاف من الناخبين العرب ودعت إلى انتخابات قاطعها العرب والأرمن ففازت القوائم التركية بالتزكية.
وفي الثاني من أيلول عام 1938 عقد مجلس اللواء المزور جلسته الأولى وانتخب رئيساً وشكل وزارة من الأتراك لتبدأ مرحلة تتريك طالت كل شيء في اللواء بدءا من اسمه الذي أصبح /هاتاي/ وليس انتهاء بتهجير العرب والعبث بهويته الديموغرافية وإلغاء التعليم باللغة العربية وإلغاء كل المعاملات الحكومية بها وتبني الليرة التركية كعملة رسمية بما يخالف النظام الذي وضعته عصبة الأمم.
واستغلت تركيا اندلاع الحرب العالمية الثانية في الأول من أيلول عام 1939 والوضع القائم في أوروبا وحاجة الحلفاء لضمها إليهم أو إبقائها على الحياد وخاصة أنها بعد معاهدة مونترو التي عقدت في 20 تموز 1939 أصبحت تسيطر على المضائق في زمن الحرب فأعلنت ضم اللواء نهائيا إليها.
ويبقى اللواء بعد سلخه عن سورية من وجهة النظر الدولية منطقة مستقلة تتبع سورية في شؤونها الخارجية وترتبط معها في العملة والجمارك والبريد ولم تعترف عصبة الأمم التي قامت على أنقاضها منظمة الأمم المتحدة الحالية بكل الإجراءات والتغييرات التي أحدثتها فرنسا وتركيا باللواء والمخالفة للقوانين والأنظمة التي وضعتها.
وتبقى أسماء الجبال والسهول والمدن في اللواء تحمل روح المنطقة وتاريخها وتنطق بهوية الأرض فأنطاكية واسكندرون وأرسوز والريحانية والسويدية أسماء تشي بعروبة المدن والأمانوس والأقرع وجبل موسى والنفاخ أسماء لا تخفي هوية الجبال السورية.
وتعتبر اسكندرون وأنطاكية أهم مدن اللواء حيث تقع اسكندرون في رأس خليج اسكندرون على البحر المتوسط وهي مركز تجاري ومنتجع سياحي هام بناها الاسكندر الأكبر عام 333 قبل الميلاد وكانت قديماً مركزا للتجارة بين الشرق والغرب واستخدمت منفذاً بحرياً لسكان مدينة حلب والشمال السوري أما أنطاكية الواقعة عند الطرف الجنوبي لسهل العمق فهي مدينة عريقة أيضا بناها القائد سلوقوس الأول نيكاتور خليفة الإسكندر الكبير في مطلع القرن الثالث قبل الميلاد تخليداً لذكرى والده أنطيوخس وتبعد عن شاطئ البحر المتوسط حوالي 25 كم.
البعث ميديا – سانا