الإنذارات الأمريكية والعصا المرتده
نــــاظـــم عـــيـد
لعلنا على يقين من أن صرخات “الإنذار” الأمريكيّة، لن تكون مؤثّرة أو ذات صدىً باقٍ في عالمٍ بات يدرك جيداً أن الظواهر الصوتية مِن خصائص مَن شاخوا وعصفت بهم السنون، وذهبت ريحهم، وغارت أمجادهم الخوالي في دوامات التجدّد وحتميّات “فيزياء” الزمن وفلسفته.
من هنا لم يعد الصراخ الأمريكي اليوم في وجه تمسّك الدولة السورية بثوابتها الوطنية، جديراً بكثير من الاهتمام، ليس لعدم الجدّية، بل لعدم القدرة في ظل غياب الظرف المناسب، فما نحن متأكدون منه أن الولايات المتحدة الأمريكية، ليست ذات ملكات أخلاقية طاغية إلى الحد الذي يغرّر بنا لتصديق تمثيلياتها، عندما تستعرض بسرد التفاصيل السابقة لمشاريع ضرباتها على “الفرائس” التي تقع عليها خيارات المصالح وإملاءات حال وزارة الخزانة، وموازنات الحكومة الفيدرالية الأم، فقبل أن ينهي ريغان تهديده للبنان في الثمانينيات الماضية، كانت “نيوجرسي” قبالة سواحل بيروت، وقبله نيكسون لم يحذّر الفيتناميين قبل أن يستبيح بلادهم.
ففي تاريخ هذه” الآفة” الكونيّة ما ينفي البعد الأخلاقي في إحداثيات استهدافاتها للشعوب والبلدان، فإن هدّدت وتوعّدت، بالتأكيد لن يكون في ذلك أهداف نبيلة من قبيل “أعذر من أنذر”، بل هو الإمعان في الغطرسة واستعراض القوة، ثم إطلاق جولات الحرب النفسية، قبل “صولات” الحرب التقليدية، ضد الخصم أو الهدف ليكون فريسةً سهلة، إلّا أن الظرف الدولي بمتغيّراته شاء أن ينكسر هذا التقليد البغيض، هنا في الحالة والميدان السوري، والمسألة السورية التي غيّرت كثيراً في معادلات القوى في هذا العالم، وأطلقت شارات إحالة حوامل “الفتوّة” الأمريكية إلى التقاعد المبكّر.
لقد خبرت الولايات المتحدة الأمريكية جيداً الآثار المعنوية للضربات الإعلامية الاستباقية التي اعتادت شنها باتجاه أهدافها المعلنة، وأدمنت الأسلوب وتوظيفه في الوقت المناسب وفق قراءاتها لخارطة المصالح والخطوط البيانية التي ترسمها على سلّم أولويات ما يسمى “المصلحة القومية العليا لأمريكا” وهي الترجمة الحرفية لمصطلح “المصلحة الإسرائيلية العليا”، وأدمنت ترهيب الشعوب بالعزف على وتر الأمن الحساس، لكنها على الأرجح لم تعد توفّق في إيجاد المناخات الملائمة لإطلاق “قذائفها” الإعلامية، بعد أن بات ثمة قوى ردع فاعلة في هذا العالم، من شأنها أن تكون صمامات أمان، للأمن والسلم العالميين، وإن أردنا التحدث بمصطلحات الهيمنة التي تحفل بها عادةً أدبيات رعاة البقر نقول: ثمة قوى جديدة حققت توازن الرعب المطلوب لإبطال مفاعيل الوعيد الأميركي..
لقد شوّشت واشنطن على جولات جنيف، وهي تلوّح بالورقة العسكرية، وكانت طائرة الأسلحة التي حطّت في مطار المفرق الأردني مع نهاية الجولة الأولى من جنيف2، رسالة واضحة للوفد الرسمي السوري في جولته الثانية، التي اختتمت بالأمس، لكنها فشلت ونجحت سوريّة في فرض أجندة عمل للجولات القادمة تضع حدّاً للمخاتلة و”ألعاب الخفّة والشعوذة” التي مارسها الأمريكي عبر أدواته البائسة.
وكان التلويح بالخطة “ب” والإيحاء باحتمالات التدخل العسكري، رسالة مفتوحة إلى الجولات القادمة التي لم يُحدّد موعدها، أملاً بإحراز متغيّرات على الأرض، تسمح بجولة جديدة تمنع “الأخشاب المسنّدة” على هيئة وفد “ائتلاف” من التداعي والسقوط كما جرى في الجولتين السابقتين.
حتى ولو لوّحت واشنطن بالخطة “د” في اختتام الجولة الثالثة – إن بقي لدى الأمريكان طاقة لشحن من ستدفع بهم إلى طاولات الحوار المزعوم– كحرب استباقية على الجولة الرابعة، ولا حتى سلسلة الخطط و”الفزاعات” وإن وصلت إلى عدد حروف الأبجدية الانكليزية، لن تغيّر في حقائق الميدان السوري، ولن تكبح اندفاع السوريين نحو ساحات المصالحة والمصافحة الدافئة.
وأغلب الظن أن في هكذا مشاهد، رسائل يقرؤها الأمريكي جيداً، وفي مضامينها أخطر حرب نفسية على من اعتاد إرهاب الآخرين، وتصويب “صواريخ” الإحباط قبل الصواريخ البالستية، تماماً كما لعبة” البوميرانغ” أو العصا المرتدة التي يعرفها الأمريكي جيداً، وها هو يتلقاها عائدة إليه من الميدان السوري هذه المرّة.
البعث