كيف لا نتذكرها..
محمد كنايسي
بالكاد تجد الوحدة السورية المصرية التي تحل ذكراها السادسة والخمسون بعد غد، من يتذكرها. والحدث الوحدوي الأبرز في التاريخ العربي المعاصر يبدو اليوم خارج سياق الواقع العربي الذي يجري فيه تفكيك الدولة القُطرية وتدميرها على قدم وساق. وفكرة الوحدة العربية نفسها أصبحت تبدو غريبة، ومن عصر آخر.
فهل يعني هذا موت الآمال والطموحات الوحدوية التي حملتها الشعوب العربية طويلاً. وماذا لو أمكن اليوم استفتاء هذه الشعوب في مختلف أقطارها على الوحدة. هل يشك أحد في أن أكثريتها ستقول: نعم؟.
لا بد إذن من التشديد على أن ما يحدث هو نهاية الوحدة كهدف إيديولوجي يقفز على معطيات الواقع والتاريخ، وليس التوجه الوحدوي الشعبي العربي، فهذا التوجه هو ترجمة للمشاعر الوحدوية المتأصلة في وجدان الإنسان العربي.
وما يصدق على الوحدة يصدق أيضاً على القومية. فالقومية العربية التي مازالت تنبض بالحياة هي تلك التي تعيش في وجدان الناس وثقافتهم ومِخيالهم الجمعي، وليست تلك القومية التي تحولت الى إيديولوجية سلطوية رسمية. إنها ذلك الشعور العفوي بأنك عربي، وأن كل ما هو عربي يعنيك، وكل ما يحدث لأي قطر عربي من خير أو شر يهمك.
وليس يعيب هذه القومية أن يكون فيها الكثير من الوجدان والعاطفة، فهذا هو بالذات ما يصنع قوتها وصدقها واستمرارها كهوية أصلية جامعة في مواجهة الهويات القطرية المصطنعة.
ولو كان القرار السياسي في يد الجماهير العربية لما غاب خيار الوحدة كل هذا الغياب، ولما أصبح التفتيت والتقسيم خياراً عربياً رسمياً. لكن القرار في يد الحكام العرب الذين يعادي أغلبهم الوحدة عداء مبدئياً شديداً ينال عليه رضى الغرب الذي يضع الوحدة على رأس قائمة الممنوعات الخطيرة. وقد انتقل هذا العداء في السنوات الأخيرة على يد الرجعية العربية من محاربة الوحدة وإفشال أي جهد وحدوي الى الانخراط في تنفيذ مشروع تفتيت الدول العربية وتدميرها. والغريب أن أعداء الوحدة هؤلاء، وبالرغم من انكشاف دوافعهم السياسية، لا يتوقفون عن تقديم المسوّغات الفكرية المضللة التي تنتقد الوحدة من خلال حصرها في النموذج البسماركي وربطها بالديكتاتورية، على الرغم من أنهم يعلمون حق العلم أن الأطروحات الوحدوية الجديدة تستبعد الوحدة الاندماجية، ولم تعد تقفز على الدولة القُطرية، بل تنطلق منها الى صيغة اتحادية تُشبه الاتحاد الأوروبي، لكن هذا يقتضي أولاً تنمية ديمقراطية، وأخرى اجتماعية واقتصادية تُوصل الدول القُطرية الى خيار الاتحاد. وهو ما يرفضونه، لأنه يعني عملياً نهاية حكمهم اللا شرعي…
وقد تبدو الوحدة اليوم، وفي ظل ما أصابها من ضربات قاصمة أضعف من أن تستطيع مواجهة أعداء الخارج والداخل. لكن هذا يتوقف أولاً وأخيراً على حواملها السياسية التي لم تستطع حتى الآن أن تُنجز شيئاً يُذكر على طريق تحقيق الوحدة، بل أسهمت في إضعاف طاقتها وتعطيل حركتها عندما حنّطتها نظرياً، وحوّلتها إلى شعار إيديولوجي منفصل عن الواقع، ولا علاقة له بمعاناة الناس ومشاكلهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية بدلاً من تجديدها وربطها عضوياً بهم وبهموم حياتهم.
ولذا فإن على هذه الحوامل أن تعود للالتحام النضالي بالجماهير، وأن تستلهم نبضها الوحدوي في إنتاج خطاب جديد قادر على شدّها وإقناعها، وتحويلها بالتالي إلى قوة سياسية وحدوية فاعلة.
وإذا نجحت الحوامل السياسية في إنزال فكرة الوحدة من سماء الإيديولوجيا إلى واقع الناس وتحويلها إلى برامج عمل واقعية قابلة للتحقيق، فإن طاقة وحدوية عظيمة ستنطلق، ولن يستطيع أعداء الخارج وأذنابهم في الداخل الوقوف في طريقها.
تحية لذكرى الوحدة السورية المصرية. فكيف لا نتذكرها، والبَلدان العربيان اللذان كانا جناحيها، يحترقان اليوم بنار الإرهاب.