معركة الميدان والهوية أيضاً
حتى اللحظة، ورغم مرور كل هذا الوقت على نهاية الجولة الثانية من “جنيف2″، لم تقرر واشنطن العودة إلى المسار السياسي، وحتى اللحظة ما زالت تحاول مراكمة الأوراق في يديها، ليس في دمشق فقط، بل في كل مكان يمكن لها ذلك، وبكل الوسائل المتوافرة أيضاً، وهو ما يشي به، مثلاً، التأخير المتعمّد من قبل “السيد البيروقراطي”، وهو لقب بان كي مون في أروقة الأمم المتحدة، للقاء الابراهيمي، وبالتالي تأجيل موعد الجولة الجديدة من “جنيف2″، لأن المعركة اليوم ليست، في حقيقتها، مجرد منافسة على موقع هنا أو هناك، بل هي في حجم معركة تحديد مسار صعود وسقوط القوى العظمى.
والحال فإنه يمكن لمراقب عادي رؤية حجم الخيط الواصل بين وقائع قد تبدو، للوهلة الأولى غير مترابطة فيما بينها، منها مثلاً انقلاب كييف الأخير، ومنها اضطرابات كاراكاس، ومنها أيضاً استعار أوار الإرهاب في العراق، وازدياد حجم العسكرة في الحالة السورية ودخول العامل الإسرائيلي علناً على مجرياتها، ومنها أيضاً وأيضاً استفاقة بعض الخلايا السياسية النائمة في لبنان بهدف كشف ظهر المقاومة حكومياً عبر البيان الوزاري لتسهيل عمل الخلايا الإرهابية النائمة في استهدافها عملانياً، كما نفهم المحاولة المستميتة لشراء مصر من قبل أتباع واشنطن بأموال البترودولار التي ما دخلت بلداً إلا أفسدتها، وجعلت قرارها تابعاً لتابع لتابع.
وإذا كان ما سبق كلاماً في الشق السياسي الظاهر علناً، فإن التجارب السابقة، تقول: إن واشنطن لا تعتمد، في معاركها، السيطرة على الميدان وحده، بل على العقول أيضاً، ومعركة “كييف” هي في جانب منها كذلك، لذلك ليس من المبكر، كما يفترض البعض، فتح حديث معركة إعادة “إعمار” العقول، والتي تفترض الوقائع والتحديات رفعها من مرتبة “فرض كفاية” على المعنيين فقط، إلى مرتبة “فرض عين” على كل سوري وسورية، فقد أصبح من الجلي، بعد ثلاث سنوات من الأزمة، أن الهدف منها ليس أقل من إعادة تشكيل الهوية السورية وفق صيغة جديدة بهدف تغييب الوعي، ليس بمضمونه السياسي المعهود فقط، بل بمضمونه الاجتماعي والأخلاقي أيضاً، وهو ما تنمّ عنه عملية الإبراز الإعلامية لظواهر، كانت مرفوضة شكلاً ومضموناً في العقل الجمعي السوري، بهدف جعلها مقبولة في مرحلة تالية، مثل الكشف عن قبول فئة، قلت أم كثرت، بالتعامل العلني مع العدو الصهيوني، علاجاً وتنسيقاً لوجستياً وأهدافاً بعيدة المدى، ومثل نشر وتعميم ثقافة ذبح الآخر مادياً ومعنوياً، كما تنمّ عنه أيضاً محاولة تشويه وعي الجيل السوري الجديد، عبر تعديل المناهج الرسمية السورية، ليجري توزيعها على الطلاب المهجرين في المخيمات التركية والأردنية، بحسب إحدى الصحف العربية التي أضافت “وفي خطوة غريبة، جرى تبديل الصورة الشهيرة للرئيس الراحل حافظ الأسد، التي يرفع فيها العلم السوري في ذكرى حرب تشرين، بصورة لجنود مشاة البحرية الأميركية يرفعون فيها العلم الأميركي خلال الحرب العالمية الثانية، بعدما ألصق علم الانتداب مكان العلم الأميركي”، أما ما يحدث في محافظة الرقة من فرض الجزية على بعض أطياف الشعب السوري فهو المثال الأكثر إيلاماً على ذلك.
ولأن الأمر بهذا المستوى من الخطورة، فإن مواجهته تحتاج إلى نضال على جبهات متعددة المستويات ومركبة الأبعاد، منها الميداني، ومنها السياسي، ومنها الاقتصادي والاجتماعي، ومنها أيضاً الوعي بأن معركة دمشق وكييف وموسكو وكاراكاس وطهران وبيروت والقاهرة وغيرها هي معركة واحدة، خاصة أن الطرف الآخر يعتبرها واحدة أيضاً، لكن الأهم هو الوعي بأن معركتنا الأخطر هي معركة العقل والتنوير والهوية العروبية الجامعة، وهي معركة يقع خوض غمارها على عاتق جميع الوطنيين بغض النظر عن مواقعهم السياسية المتباينة اليوم، فلا معارضة هنا إلا للجهل والتجهيل، ولا موالاة إلا للعقل والوطن، فأين فرسان هذه المعركة المصيرية بامتياز؟.
أحمد حسن
البعث