اخترنا لك

الخط الأحمر وخطة النجاة (2)

في البداية، رأى كبار مساعدي البيت الأبيض قرار الرئيس بالتوجه إلى الكونغرس تكرارا لمناورة جورج بوش الابن في خريف 2002 قبل غزو العراق :”عندما اتضح خلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، تقاسم الكونغرس، الذي وافق على الحرب على العراق، والبيت الأبيض، اللوم، وكررا بشكل مستمر اسطوانة المعلومات الاستخبارية الخاطئة. في حال قيام الكونغرس الحالي بالتصويت على الضربة والموافقة عليها، يمكن للبيت الأبيض من جديد أن يستثمر الأمر في الإتجاهين، توجيه ضربة قاضية لسورية وتأكيد التزام الرئيس بالخط الأحمر، وبذات الوقت يكون بمقدور البيت الأبيض تقاسم اللوم مع الكونغرس إن تبين أن الجيش السوري لم يكن من قام بالهجوم. شكل الإنقلاب مفاجأة حتى لزعامة الديمقراطيين في الكونغرس. وذكرت صحيفة “وال ستريت جورنال” في أيلول أن أوباما قبل ثلاثة أيام من خطابه في الحديقة اتصل هاتفيا بزعيمة الديمقراطيين نانسي بيلوسي للتباحث بشأن الخيارات. وحسب الصحيفة، أبلغت لاحقا بعض زملائها بأنها لم تطلب من الرئيس طرح مسألة الضربة على الكونغرس للتصويت.

سرعان ما تحول توجه أوباما للحصول على موافقة الكونغرس إلى طريق مسدود. فقد أفاد مسؤول سابق في المخابرات أن الكونغرس لم يكن سيسمح بتمرير الأمر. وأعلن الكونغرس أنه، وبخلاف الموافقة على الحرب على العراق، سيتم إجراء جلسات موضوعية. عند تلك النقطة، ساد شعور من خيبة الأمل في البيت الأبيض. وعندها ظهرت خطة بديلة: يتم إلغاء الضربة وسيوافق الأسد من جانب واحد على توقيع اتفاقية حظر الأسلحة الكيمياوية وأيضا على تدمير الأسلحة الكيمياوية بإشراف الأمم المتحدة. في مؤتمر صحفي في 9 أيلول في لندن، كان كيري ما يزال يتحدث عن التدخل :”خطورة عدم التحرك هي أكبر من خطورة التحرك” لكن عندما سأله أحد الصحفيين عما إذا كان بمقدور الأسد القيام بشيء لمنع الضربة، رد كيري :”بالتأكيد، بإمكانه تسليم كافة أسلحته الكيماوية إلى المجتمع الدولي خلال الأسبوع المقبل… لكنه لن يقوم بذلك، ومن الواضح أن ذلك أمر لا يمكن تنفيذه”. وكما ذكر تقرير “نيويورك تايمز” الذي صدر في اليوم التالي، قام الروس برعاية الصفقة، وتمت مناقشتها في وقت لاحق بين بوتين وأوباما في صيف 2012. وبالرغم من أن خطط الضربة تم رميها في الصندوق، إلا أن الإدارة لم تغير من تقييمها العلني بشأن تبرير الذهاب إلى الحرب. ووفق مسؤول الإستخبارات السابق، لا مجال للتسامح بأي خطأ على ذلك المستوى بالنسبة لكبار مسؤولي البيت الأبيض، لم يكونوا قادرين على التصريح “بأنهم كانوا مخطئين”. لم يكونوا قادرين على ذلك. (صرح المتحدث باسم وكالة مخابرات الدفاع :”نظام الرئيس الأسد، وفقط نظام الرئيس الأسد، يمكن أن يكون المسؤول عن هجمة السلاح الكيماوي التي وقعت في 21 آب”.

 مازال حجم التعاون الأمريكي مع تركيا والسعودية وقطر في مساعدة المعارضة المسلحة في سورية بانتظار الكشف عنه. إدارة أوباما لم تكشف أبدا في العلن عن دورها في إنشاء شبكة النجاة، وهي عبارة عن طريق خلفي سريع إلى سورية. تمت المصادقة على “خطة النجاة” في أوائل 2012، وتم استعمالها لتهريب الأسلحة والذخيرة من ليبيا إلى جنوب تركيا لتعبر الحدود السورية لتسليمها إلى المعارضة. العديد ممن استلم تلك الأسلحة في سورية كانوا جهاديين وبعضهم مرتبط بالقاعدة. (صرح المتحدث باسم وكالة مخابرات الدفاع :”الإعتقاد بأن الولايات المتحدة وفرت الأسلحة من ليبيا إلى أي كان هو اعتقاد خاطىء”.

في كانون الثاني، أصدرت لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ تقريرا عن الهجوم الذي نفذته مجموعة مسلحة في أيلول 2012 على القنصلية الأمريكية وقرب مقر لممخابرات المركزية الأمريكية في بنغازي، مما أسفر عن مقتل السفير الأمريكي كريستوفر ستيفنز وثلاثة آخرين. حظي الإنتقاد الذي وجهه التقرير لوزارة الخارجية الأمريكية لعدم توفيرها الحماية الكافية للقنصلية، ووكالات الإستخبارات لعدم إعلام الجيش الأمريكي بوجود مقر للمخابرات في المنطقة، بتغطية على الصفحات الأولى في الصحف، وأنعش العداوات في واشنطن، فالجمهوريون بدأوا بكيل الإتهامات لكل من أوباما وهيلاري كلينتون بتغطية الموضوع. الملحق السري للغاية المرفق بالتقرير لم يتم نشره، وذكر التوصل إلى اتفاقية سرية في أوائل 2012 بين إدارتي أوباما وأردوغان. وهو يتصل بخطة النجاة. حسب بنود الإتفاقية، قامت تركيا بالتمويل، إضافة إلى السعودية وقطر، أما المخابرات المركزية الأمريكية والمخابرات البريطانية، فكانتا مسؤولتين عن إيصال الأسلحة من مخازن القذافي إلى داخل سورية. تم تأسيس عدد من الشركات الوهمية في ليبيا، وبعضها تحت غطاء شركات أسترالية. تم توظيف جنود أمريكيين متقاعدين، لم يعرفوا دوما من كان يوظفهم حقيقة، لإدارة عمليات التوريد والشحن. قام ديفيد بترايوس بإدارة العملية، مدير السي آي إيه الذي سيستقيل بعد ذلك بوقت قريب نتيجة إكتشاف إقامته علاقة عاطفية مع كاتبة سيرته الذاتية (متحدث باسم بترايوس نفى وجود تلك العملية).

لم يتم الكشف عن العملية عند التحضير لها للجان الإستخبارات في الكونغرس وقيادات الكونغرس، بشكل مخالف لما ينص عليه القانون منذ السبعينيات. مشاركة المخابرات البريطانية في العملية سمحت للمخابرات المركزية الأمريكية بالتحايل على القانون عبر تصنيف العملية على أنها عملية اتصال. أوضح مسؤول الإستخبارات السابق بأنه منذ زمن طويل تم الإعتراف باستثناء في القانون يسمح للمخابرات المركزية بعدم إبلاغ الكونغرس عن نشاطات الإتصال “الإرتباط”، بل فقط إدراج وثيقة معلومات عن العمليات السرية… تم حصر توزيع الملحق على المساعدين الذين كتبوا الملحق والأعضاء الثمانية الكبار في الكونغرس – زعماء الحزبين الجمهوري والديمقراطي في مجلسي النواب والشيوخ، والزعماء الديمقراطيين والجمهوريين أعضاء لجنة الإستخبارات في المجلسين – ويعتبر ذلك بالكاد محاولة جدية للرقابة: من المعروف أن الزعماء الثمانية لا يجتمعون معا لطرح الأسئلة أو مناقشة المعلومات السرية التي يتلقونها.

الملحق لا يتضمن كامل قصة ما جرى في بنغازي قبل الهجوم، ولا يفسر أيضا سبب الهجوم على القنصلية الأمريكية. وبحسب مسؤول الإستخبارات السابق :”كانت المهمة الوحيدة للقنصلية هي توفير غطاء لعمليات نقل الأسلحة، ولم يكن لها دور سياسي فعلي”.

قامت واشنطن بشكل مفاجىء، بعد الهجوم على القنصلية، بإنهاء دور المخابرات المركزية في نقل السلاح من ليبيا، لكن خطة النجاة استمرت على حالها. وأفاد مسؤول الإستخبارات السابق :”لم يعد لدى واشنطن القدرة على التحكم بما يقوم الأتراك بتسليمه إلى الجهاديين”. وخلال أسابيع وصل حوالي 40 صاروخ أرض- جو محمول إلى أيدي المسلحين السوريين. وبتاريخ 28 تشرين الثاني 2012، كتب جوبي واريك لصالح “واشنطن بوست” تقريرا يفيد بأن المتمردين استعملوا أحد تلك الصواريخ لإسقاط مروحية نقل سورية قرب حلب. وبحسب واريك :”لطالما عارضت إدارة أوباما بحزم تسليح قوات المعارضة السورية بتلك الصواريخ، وحذرت من أنها قد تقع في أيدي الإرهابيين، ويتم استخدامها لإسقاط طائرة مدنية تجارية”. أفاد مسؤولون استخباريون من الشرق الأوسط أن قطر كانت مصدر تلك الصواريخ، فيما تكهن محلل سابق في المخابرات الأمريكية أن تلك الصواريخ تم الاستحواذ عليها من مواقع للجيش النظامي بعد الإستيلاء عليها. ولم يتم الإشارة إلى أن استحواذ المسلحين على تلك الصواريخ كان على الأرجح بسبب عملية سرية أمريكية لم تعد تحت السيطرة الأمريكية.

بحلول نهاية 2012، ساد الإعتقاد في مجتمع المخابرات الأمريكي، بأن المتمردين يخسرون الحرب. وهنا بحسب مسؤول الإستخبارات السابق “شعر أردوغان بالغضب، وأحس بأنه قد ترك ليواجه مصيره وحيدا، فقد كان يدفع المال، واعتبر تركه بتلك الطريقة بمثابة خيانة”. في ربيع 2013، علمت المخابرات الأمريكية أن الحكومة التركية، عبر جهاز المخابرات القومي والجندرمة، كانت تتعامل مباشرة مع جبهة النصرة وحلفائها لتطوير قدرات تصنيع الأسلحة الكيمياوية. وبحسب مسؤول الإستخبارات السابق :”كانت المخابرات تقوم بدرو الإتصال السياسي مع المتمردين، فيما تولت الجندرمة عمليات الإمداد العسكري، والإستشارة والتدريب على الأرض، بما في ذلك التدريب على الحرب الكيمياوية، واعتبرت تركيا أن تضخيم دورها، في ربيع 2013، كان المفتاح لحل مشاكلها. أدرك أردوغان أن كل شيء سينتهي إن أوقف دعمه للجهاديين. ولم يكن بإمكان السعوديين دعم العمليات الحربية نتيجة مصاعب لوجستية، تتضمن بعد المسافة وصعوبة نقل الأسلحة والإمدادات. كان أمل أردوغان هو التحريض على حدث يجبر الولايات المتحدة على تجاوز الخط الأحمر، لكن أوباما لم يتحرك في آذار ونيسان”.

لم تظهر أي إشارة للخصومة بشكل علني عندما التقى أردوغان وأوباما، في 16 أيار 2013، في البيت الأبيض. وفي مؤتمر صحفي لاحق، صرح أوباما أنه اتفق مع أردوغان على أن الأسد “يجب أن يرحل”. وعند سؤاله حول ما إذا كانت سورية قد تجاوزت الخط الأحمر، أقر أوباما بوجود دليل على استخدام ذلك النوع من السلاح، لكنه أضاف :”من الضروري التأكد من حصولنا على مزيد من المعلومات المحددة حول الذي حصل حقا هناك”. بالتالي، كان الخط الأحمر سليما.

أخبرني خبير في السياسة الأمريكية الخارجية، ممن يتواصلون بشكل متواصل مع مسؤولين في واشنطن وأنقرة، عن عشاء عمل أقامه أوباما على شرف أردوغان أثناء زيارته في شهر أيار. طغى على العشاء الإصرار التركي على أن سورية خرقت الخط الأحمر، والشكوى من إحجام أوباما عن التحرك بذلك الشأن. رافق أوباما في ذلك العشاء جون كيري وتوم دونيلون، مستشاره لشؤون الأمن القومي والذي سيترك عمله قريبا. بينما كان مع أردوغان، وزير خارجيته أحمد داود أوغلو وهاكان فيدان مدير المخابرات التركية. يعرف عن فيدان أنه شديد الولاء لأردوغان، ويعتبر من داعمي المعارضة المتشددة في سورية.

وصرح الخبير أن الواقعة جرت مع دونيلون (تم تعزيز الواقعة لاحقا من قبل مسؤول أمريكي سابق سمع بها من دبلوماسي تركي رفيع المستوى). القصة هي أن أردوغان طلب لقاء أوباما ليثبت له أن الخط الأحمر تم اختراقه، وأحضر معه فيدان ليعرض القضية. حاول أردوغان إفساح المجال لفيدان كي يشارك في المحادثة، فبدأ فيدان بالتحدث، لكن أوباما قاطعه قائلا :”نحن نعلم”. وحاول أردوغان أن يشرك فيدان مجددا في الحديث، لكن أوباما قاطعه مرة أخرى قائلا :”نحن نعلم”. في تلك النقطة قال أردوغان ساخطا “لكن خطكم الأحمر قد تم خرقه!”، وحسب رواية الخبير، فإن دونيلون أخبره أن أردوغان “رفع إصبعه اللعين بوجه الرئيس داخل البيت الأبيض”. عندها أشار أوباما باتجاه فيدان وقال :”نحن نعلم ما تقوم به مع المتطرفين في سورية” (دونيلون، الذي انضم إلى مجلس الشؤون الخارجية في تموز الماضي، لم يرد على الأسئلة التي طرحت عليه حول هذه المسألة. ووزير الخارجية التركي رفض الإجابة على أسئلة حول العشاء. في حين أكدت متحدثة باسم مجلس الأمن القومي العشاء، وعرضت صورا تجمع أوباما، كيري، دونيلون، أردوغان، فيدان وداود أوغلو حول المائدة. لكنها صرحت أنها لن تقدم معلومات عن تفاصيل المحادثات).

على العموم، لم يغادر أردوغان خالي الوفاض، لأن أوباما استمر في السماح لتركيا باستغلال ثغرة في الأمر الرئاسي الذي يمنع تصدير الذهب إلى إيران كجزء من العقوبات الإقتصادية الأمريكية على إيران. في آذار 2012، وتجاوبا مع العقوبات الأوروبية على المصارف الإيرانية، تم فصل العشرات من المؤسسات المالية الإيرانية من نظام التحويل الالكتروني سويفت، مما قيد بشكل كبير قدرة إيران على التجارة الدولية. قامت الولايات المتحدة بعد ذلك بإصدار الأمر الرئاسي في تموز، لكنها تركت فيه ما بات يعرف باسم “الثغرة الذهبية”: يمكن لشحنات الذهب المتجهة للقطاع الخاص الإيراني أن تستمر. تعتبر تركيا مشتريا رئيسيا للنفط والغاز الإيرانيين، فقامت باستغلال تلك الثغرة عبر تسديد دفعات الطاقة بالليرة التركية في حساب إيراني في تركيا، ليتم لاحقا استخدام تلك الودائع لشراء ذهب تركي وتصديره إلى مجموعة في إيران. تشير التقارير إلى أن المبلغ الإجمالي للذهب الذي دخل إيران بتلك الطريقة، بين آذار 2012 وتموز 2013، يبلغ 13 مليار دولار أمريكي.

تحولت العملية بسرعة كبيرة إلى دجاجة تبيض ذهبا بالنسبة للسياسيين الفاسدين والتجار في تركيا، وإيران والإمارات العربية المتحدة. وبحسب مسؤول الإستخبارات السابق :”قام الوسطاء بما يقومون به دوما، أي الحصول على نسبة 15%). وتشير تقديرات وكالة المخابرات المركزية إلى استثمار ملياري دولار في تلك العملية. وبدأت أرباح الذهب والمال التركي تنهال على أصحابها. لكن تلك الأرباح غير المشروعة تحولت إلى فضيحة كبرى في تركيا في شهر كانون الأول، وأدت إلى توجيه إتهامات إلى 24 شخصا، من بينهم رجال أعمال كبار وأقارب مسؤولين حكوميين، إضافة إلى استقالة ثلاث وزراء، أحدهم كان قد دعا أردوغان إلى الإستقالة. المدير التنفيذي للمصرف التركي الحكومي، الذي كان في عين عاصفة الفضيحة، أصر أن مبلغ 4.5 مليون دولار، الذي عثرت عليه الشرطة أثناء تفتيش منزله ضمن علب أحذية، كان تبرعات خيرية.

في العام الفائت، أفاد جوناثان شانزر ومارك دابوويتز في “فورين بوليسي” أن إدارة أوباما أغلقت الثغرة الذهبية في كانون الثاني 2013، لكنها ضغطت ليتم تأخير تشريع القانون 6 شهور. وتكهنا أن الإدارة أرادت استغلال ذلك لتحفيز إيران للجلوس على طاولة المفاوضات بشأن برنامجها النووي، أو لترضية حليفها التركي في الحرب الأهلية السورية. سمح ذلك التأخير لإيران بجمع مليارات الدولارات كذهب، مما زاد من تقويض العقوبات.

القرار الأمريكي بإنهاء دعم المخابرات المركزية لشحنات السلاح إلى سورية، ترك أردوغان مكشوفا سياسيا وعسكريا. وبحسب مسؤول الاستخبارات السابق، فإن إحدى المسائل، التي تم طرحها في قمة أيار، كانت حقيقة أن تركيا هي الطريق الوحيد لدعم المتمردين في سورية. ولا يمكن القيام بذلك من الأردن لأن تضاريس المنطقة الجنوبية مكشوفة تماما، والسوريون يسيطرون عليها إلى حد كبير. كما لا يمكن القيام بذلك عبر سهول وجبال لبنان، لأنك لا تستطيع أن تضمن من سيكون بانتظارك في الجهة الأخرى. وبدون الدعم العسكري الأمريكي للمتمردين سيتبخر حلم أردوغان في تشكيل دولة تابعة له في سورية، وهو يعتقد أننا نحن السبب. وهو يدرك تماما أنه عندما تربح سورية الحرب، فمن الأرجح أن ينقلب المتمردون ضده، فهم لا يملكون مكانا آخر للهرب. عندها، سيصبح لديه آلاف من المتطرفين في حديقته الخلفية.

مستشار استخباراتي أمريكي أبلغني أنه قبل بضعة أسابيع من 21 آب، رأى ملخصا عالي السرية مخصصا لـ ديمبسي، ووزير الدفاع تشاك هاغل، وهو يصف حالة القلق الشديد التي تعصف بإدارة أردوغان جراء تدهور معنويات المتمردين. حذر التحليل من أن الحكومة التركية قد أعربت عن “ضرورة القيام بشيء ما لتحفيز وتسريع رد عسكري أمريكي”. لكن مع حلول نهاية الصيف، كان الجيش السوري مازال متقدما على المتمردين، وأن القوة الجوية الأمريكية هي الوحيدة القادرة على قلب الموازين. وبحلول الخريف، حسب مسؤول الإستخبارات السابق، استشف محللو الاستخبارات الأمريكية الذين تابعوا دراسة أحداث 21 آب، أن سورية لم تكن مسؤولة عن ذلك الهجوم. لكن السؤال المحرج والمخيف بآن واحد كان: كيف حدث ذلك؟ كان الأتراك أول المتهمين، لأنهم يمتلكون كافة البيادق لتحقيق ذلك.

تم رصد وجمع الاتصالات المعترضة والبيانات الأخرى المتعلقة بهجوم 21 آب، ووجد فيها مجتمع الاستخبارات دليلا يدعم شكوكه. وبحسب مسؤول الاستخبارات السابق :”نعلم الآن أن الهجوم كان عملية سرية خطط لها رجال أردوغان لدفع أوباما لتجاوز الخط الأحمر. كان من الضروري تنفيذ هجوم الغاز قرب دمشق بسبب وجود مفتشي الأمم المتحدة هناك (كانوا قد وصلوا إلى دمشق في 18 آب للتحقيق في هجوم سابق). كانت الخطة تقضي القيام بشيء دراماتيكي. تم إبلاغ كبار قادتنا العسكريين من قبل وكالات الاستخبارات المختلفة أن السارين تم توفيره من تركيا، وهو لا يمكن أن يصل إلى وجهته بدون الدعم التركي. كما وفر الأتراك التدريب اللازم لإنتاج السارين والتعامل به”. معظم إشارات تأييد هذا التقدير أتت من الأتراك أنفسهم، عبر اعتراض اتصالاتهم بعد الهجوم مباشرة. “الدليل الرئيسي أتى من الفرحة التركية العارمة بعد الهجوم وتبادل التهاني، وهي أمور تم اعتراضها ورصدها. دائما يتم تخطيط العمليات بطريقة فائقة السرية، لكن يتم كشف الأقنعة بسرعة عندما يحين وقت التباهي والتبجح. لا يوجد ما هو أخطر من قيام المجرم بإعلان مسؤوليته لحصد نتائج النجاح”. ومشاكل أردوغان في سورية ستنتهي قريبا جدا :”سينطلق الغاز وسيقول أوباما أن الخط الأحمر تم تجاوزه، عندها ستقوم أمريكا بمهاجمة سورية، على الأقل تلك كانت الفرضية. لكن الأمور جرت بما لا تشتهي السفن”.

المعلومات الإستخبارية التي تم جمعها بعد الهجوم مباشرة لم تصل إلى البيت الأبيض. وبحسب مسؤول الإستخبارات السابق :”لا أحد يرغب بالحديث عن كل ذلك، فهناك إحجام كبير عن نقض الرئيس، بالرغم من عدم معلومات وتحليلات إستخبارية شاملة تدعم تسرعه في إطلاق الأحكام. لم يقدم البيت الأبيض، منذ إلغاء الضربة، دليلا إضافيا واحدا عن تورط سورية في تنفيذ هجوم السارين. لا يمكن لحكومتي أن تقول شيئا، وذلك لأننا تصرفنا بلا مسؤولية. وبما أننا ألقينا اللوم على الأسد، لا يمكننا التراجع وإلقاء اللوم على أردوغان”.

الإستعداد التركي للتلاعب بالأحداث في سورية لتحقيق المصالح التركية تم فضحه الشهر الفائت، قبل الإنتخابات المحلية ببضعة أيام، عندما تم نشر تسجيل صوتي على اليوتوب، يضم على ما يبدو صوت أردوغان وبعض مساعديه. تضمن التسجيل نقاشا حول عملية عسكرية سرية هدفها تبرير اجتياح عسكري تركي لسورية. تمحورت العملية حول قبر سليمان شاه، جد عثمان الأول، مؤسس الإمبراطورية العثمانية، ويقع قرب حلب، وتم التخلي عن ملكيته لصالح تركيا عام 1921، عندما كانت سورية تحت الحكم الفرنسي. هددت إحدى المجموعات الإسلامية المسلحة في سورية بتدمير الضريح باعتباره بمثابة عبادة للأوثان، وهددت إدارة أردوغان علنا بالإنتقام إن تعرض الضريح للأذى. وبحسب تقرير رويترز عن التسجيل المسرب، تحدث صوت، يفترض أنه صوت فيدان، واقترح القيام باستفزاز :”اسمع يا سيدي (أردوغان)، إن كان لا بد من تبرير، التبرير هو قيامي بإرسال أربعة رجال إلى الطرف الآخر. سأجعلهم يطلقون ثمانية صواريخ في العراء (بجوار الضريح). تلك ليست بمشكلة. يمكن تصنيع التبرير”. اعترفت الحكومة التركية بعقد اجتماع للأمن القومي لمناقشة التهديدات القادمة من سورية، لكنها قالت أن التسجيل تم التلاعب به. ونتيجة لذلك قامت الحكومة بحجب موقع اليوتوب.

باستثناء حدوث تغيير كبير في سياسة أوباما، يبدو أن التدخل التركي في الحرب السورية سيستمر. المسؤول السابق في الاستخبارات قال :”سألت زملائي عما إذا كان هناك طريقة لإيقاف دعم أردوغان المستمر للمتمردين، وخاصة الآن بعد أن تبين أنه يقوم بذلك بطريقة خاطئة تماما، وكان الرد :”نحن في مأزق”. كان من الممكن أن نعلن الحقيقة للعلن لو كان شخص آخر غير أردوغان، لكن تركيا حالة خاصة. فهي حليفة في الناتو. والأتراك لا يثقون بالغرب، ولا يمكنهم التعايش معنا إن قمنا بأي دور فعال ضد المصالح التركية. إن فضحنا ما نعرفه عن دور أردوغان في قضية الغاز، ستكون كارثة. سيقول لنا الأتراك :”نحن نكرهكم لأنكم تحددون لنا ما يمكننا أو لا يمكننا القيام به”.

    الكاتب: سيمور هيرش

ترجة: المركز الوطني للأبحاث واستطلاع الرأي