مساحة حرة

«ربيع عربي»… بالمقلوب !

المشهد العربي بات مدهشاً ومدعاة للسخرية، عبارة يمكن أن تختصر حكاية ما أطلق عليه الغرب، قبل بعض العرب، الثورات العربية والربيع العربي، عندما تنقلب الآية -كما يقال في الموروث الشعبي- فإنها تحطم معها كل الأسس السابقة، وتصادر بالتالي كل النتائج والإفرازات العفنة التي نجمت عنها.

المواطن العربي، الذي عمل الغرب منذ بداية ما يسمى بالثورات العربية، على استلاب عقله ومصادرته، ليملأه بما هو مناسب له، بحسب المنظور الغربي، استفاق ذات يوم على “ثورات ديمقراطية” قيل له فيها إنها تهدف إلى إعطائه الحرية والديمقراطية، وإعادة الخاصية الانسانية له، بعد أن استلبتها منه الأنظمة العربية المستبدة، ومن أجل هذه المبادىء السامية شمّر الغرب عن ساعديه، ومد يديه، اللتين لم تتطهرا بعد من الإرث الكولونيالي، لمساعدة العربي المسكين، مساعدة كانت مشروطة باغتيال عقله غير القادر بعد على بناء دولته بحسب مساعده الغرب المتمدن، الذي امتدت يده من تونس إلى سورية، يضعها تارة بيد المعارضة، الفطر المستنبت والمخمر جيداً استعداداً لهذه اللحظة التاريخية، وتارة أخرى بيد مجموعات مسلحة دُربت جيداً قبل أن يُزج بها في أتون الثورات المنشودة.

دُعمت المعارضة النبيلة، ودُمرت لأجلها أنظمة واستُجلب غيرها، أعيد تشكيل دول وفق الوصفة الغربية، بالشكل الذي تكون فيه أهلاً لخدمة شعوبها، هذا بالطبع ما سُوّق للشعوب العربية المثكولة بأنظمتها السياسية وبدولها التي أصبحت فجأة، بحسب الوصف الغربي، ديمقراطية!.

وعند سورية وقف الربيع العربي مصدوماً، فلا هو قادر على الاجتياح كما فعل بتونس وليبيا واليمن ومصر، ولا هو قادر على المحافظة على صورته المرسومة غربياً.. جرعات كهرباء، إنعاش القلب التي أعطيت له لم تسعفه للعودة للحياة، وحدة المعارك الطاحنة، التي زُجت بها نخبة من المقاتلين المرتزقة، لم تفلح في إقناع الشعب السوري أن ربيع الديمقراطية المزعوم أفضل له من نظامه السياسي، ما اضطر اللاعبين الدوليين إلى التخلي عن الصورة الحقيقية للربيع المفترض واللعب بالمسميات الحقيقية للأهداف، فتراجعت تعابير المظاهرات السلمية، وظهرت مشاهد المجموعات الإسلامية الجهادية المتطرفة، وغاب عن كاميرا وسائل الإعلام المتظاهرون المغلوب على أمرهم، لتتصدر الشاشة ألوية جبهة النصرة وداعش والفاروق ومئات المجموعات الإرهابية.. الصورة الحقيقية للربيع العربي إذاً لم تعد الحرية والديمقراطية، بل التصفيات الجماعية بحسب الانتماء الطائفي، صور القتل والسحل والصلب، والمجازر الجماعية، وويلات التشرد والجوع وأسواق النخاسة، في مشهد دموي لم يعرفه العالم يوماً.

في العرف الغربي يقال إننا نلجأ لصناديق الاقتراع كي لا نضطر لكسر الجماجم، لكن الغرب قلب في سورية هذا العرف، فلجأ إلى محاولة تكسير الجماجم كي لا يسمح بصناديق الاقتراع، لكن الجماجم السورية بحسب ما ظهر للغرب، كانت مصنوعة من الفولاذ، فلا هي انكسرت ولا هو منع صناديق الاقتراع.

حتى الآن يبدو كل ما سبق مجرد كلام إنشائي قد يطرب له البعض، ويرفضه البعض الآخر، لكن حتى ننفي هذه التهمة، يمكن فقط أن نراقب كيف انقلب الربيع العربي رأساً على عقب في العراق، فنفهم المقصود من كل كلمة كتبت في السابق.

في ثورات الربيع العربي، كانت الأيدي الغربية تمتد للمعارضة ضد النظام، أما في العراق وللمفارقة المضحكة، تعاود تلك الأيدي الامتداد لكن لدعم النظام العراقي ضد معارضيه!.. هنا ينكشف الوجه الحقيقي للربيع العربي، وهنا فقط يظهر واضحاً أن سورية كانت المختبر الحقيقي لفكرة ومفهوم هذا الربيع المفترض، فلو لم تنجح الدولة السورية في تعريته لما تمكنت الدول الغربية من قلب مفاهيمها تجاه ما سوّقته هي بذاتها للشعوب العربية المغلوب على أمرها، فالمعارضة الآن التي دُعمت في تونس وليبيا ومصر واليمن، ورغم كونها ذات الصفات والجينات الوراثية، أي إسلامية متطرفة، باتت الآن بيضة القبان بين مختلف القوى الكبرى رغم الخلافات الكبرى بينها، باتت الآن ذات المعارضة تشكل القاعدة المشتركة لمصالح تلك الدول، فالهدف الأبرز للجميع الآن هو قتال تلك المجموعات المسلحة المتطرفة والارهابية في العراق، والتي بات خطرها يتجاوز سورية والعراق وصولاً لأمريكا وأوروبا.

مشهد غربي -عربي يمكن أن يثير السخرية قبل أي شيء آخر، لكنه يثير في الوقت نفسه الاشمئزاز من معارضة كانت قبيل أشهر “مقدسة” للغرب وبعض العرب، وباتت اليوم شيطاناً يفتح أبواب جهنم على الجميع، من هنا فالغرب، الذي حارب دمشق باسم المعارضة، يعود لاستجداء دمشق باسم ذات المعارضة.

د. أشواق أيوب عباس