line1الشريط الاخباريمحليات

دير الزور تختنق بهباب القراصنة والمارقين

عندما تكون في ريف دير الزور الشرقي تخال نفسك أنك في منجم فحم، بعد أن كانت حقول القمح والقطن والذرة، على مد النظر، وأشجار المشمش والرمان والحور تحف ضفاف الفرات بمنظر لا أبهى ولا أجمل.. واليوم تئن هذه الحقول من سماكة الدخان الأسود القاتل، وقد كان أهالي ريف الدير”يندرون الندر” لظهور بركة النفط والغاز في بطون أراضيهم  لإيجاد فرص عمل لشبابهم، أما اليوم فتحولت هذه النعمة إلى نقمة  وكارثة  بعد أن  تحولت المنطقة إلى غابات من أعمدة الدخان المتصاعدة من كل حدب  وصوب  بسبب حراقات النفط الميدانية.. كان أهالي الفرات ينامون فوق أسطح المنازل لروعة السماء وصفاء القلوب، أما اليوم فسيتفيقون صباحا وكأنهم خارجون من مدفأة الحطب.. أرض الخيرات التي كانت خالية من أي شكل من أشكال التلوث أو العنف تسير في شوارعها الآن فتشعر أنك  في قرى أفغانستان، أنواع الأسلحة وأصابع المتفجرات مفروشة في الشوارع تبحث عن قاتل جديد.. و كانت في كل مدينة وبلدة وحتى القرى الكبيرة مراكز صحية ومستوصفات، اليوم تحولت إلى خرائب تعشش فيها الغربان.. الأطباء هجروا فانتعش شلل الأطفال والسل والطاعون وحبة حلب والربو، وأمراض تفرخ أمراضاً.

“البعث” أمضت أياما في بعض قرى دير الزور لترصد القليل من معاناة أهلها بعد أن حولها تجار الدم من قرى خيرة إلى قرى منكوبة.

ريف الدير… منكوب

بعد حوارات وأحاديث وأسئلة وأجوبة وآهات وزفرات لسان حال من التقيناهم من شيوخ ونساء ورجال وطلبة في ريف الدير من موحسن إلى محكان، مروراً بالعشارة والصبيخان، وصولاً نهاية خط الشامية البوكمال، ومن هجين إلى الشحيل فالطيانة والحوايج، وصولا إلى حطة، ينطق بالدعوة والاستغاثة ممهوراً بالنذور لعودة أيام الأمان، لافتين إلى أن البعض سرق بعض أدوات التكرير واستعان بفنيين ومهندسي النفط الذين كانوا يشرفون على الآبار، والبعض الآخر يسرق النفط من البئر بمساعدة ما تبقى من عمال، ويجمع بخزانات كبيرة ثم يتم تكريرها بطريقة بدائية تعتمد على خزانات وخراطيم تصفي النفط عبر رفع درجات الحرارة من خلال إشعال إطارات تحت البراميل الممتلئة بالمادة ومن ثم تبريدها بالتقطير لاستخراج كميات من المحروقات، ولاسيما البنزين والمازوت، والبعض الآخر أشرك أسرته بهذا العمل الخطير .. مشيرين إلى أن القاسم المشترك بين هؤلاء أنهم قطّاع طرق ومهربون ومافيات تسللوا إلى المنطقة مؤخرا، وتملك كل وسائل الإغراء للمحتاجين والتصفية للمعارضين لهم.. نعم، البعض القليل انتفع ولكن الأغلبية تضررت على مستوى الإنسان والدواب والمواسم، والقادم أعظم بعد انتشار عمليات التقطير البدائية التي لا تنجح تماما في إنتاج مادة محروقات، بل أصبحت تشكل خطورة لدى الاستعمال تحديداً التي تستخدم لأغراض التدفئة، حيث أدت في حالات متعددة إلى إشعال حرائق أو انفجارات بسبب عدم نقاوة المادة المكررة بدائيا من كافة مكونات النفط، ما نتيجته اختلاط في بواعث الطاقة ضمن المشتق النفطي.

ورغم الخطورة، يباع البرميل إلى تركيا بـ دولارين بينما تبيعه تركيا بـ 40 دولارا في حين سعره في السوق العالمية 110 دولارات، وتعرّض قطاع النفط لخسائر كبيرة من حيث كميات النفط والغاز المهدور والمسروق، كما تعرضت البنى التحتية والمنشآت وخطوط نقل النفط والمشتقات والآليات والمعدات والتجهيزات للنهب والتخريب.

 أهل البيت يبقّون البحصة

من جهته يرى الدكتور إبراهيم كيصوم “صدرية” أن الأمراض بدأت تظهر للعيان مؤخراً، مثل الالتهابات الجلدية والسرطان الجلدي والتشوهات الخلقية، فقد تم تسجيل  عشرات حالات التشوه الخلقي في مدينة  الميادين والقرى المجاورة مثل الشحيل والطيانة وذيبان والحوايج وهجين ناتجة عن التكرير اليدوي للنفط، وهذا ما لاحظناه من بعض الصور الشعاعية ما قبل الولادة من تشوهات مختلفة، وكل ذلك يعود إلى الاستخراج والتكرير اليدوي للنفط في مناطق دير الزور، إضافة إلى التشوهات الولادية التي سيزداد احتمال ظهورها مستقبلاً، ويلفت الكيصوم إلى أنّ هناك عواقب سرطانية كثيرة تنتج عن التعرض المباشر والمستمر للأشعة الصادرة عن النفط الخام، كما أنها خطيرة على التوازن الحيوي وعلى الحيوانات والنباتات.

أخطار إضافية

ونبه كيصوم إلى خطر هذه الأشعة لأن أثرها يدوم عشرات السنين، حيث “تمتص التربة والصخور هذه الأشعة وتختزنها، كما أن الدخان المتصاعد من حرّاقات التكرير اليدوي يؤدي إلى تلوث كبير للبيئة، ويمنع تلقيح الأشجار، ويؤدي إلى تشكل غيوم سوداء في سماء المنطقة، وبالتالي تساقط الأمطار الحمضية المضرة لكل شيء يمشي أو يطير، ورغم علم غالبية هؤلاء بوجود الخطر دون العلم بتفاصيله إلا أن الظاهرة تزداد انتشاراً، وبالتالي تزداد احتمالية ظهور الأمراض السرطانية بشكل فوري، وظهور التشوُّهات الولادية خلال ثلاث سنوات، علماً أن هذه البؤر المتخلفة تدرُّ أرباحاً كبيرة جداً على بعض المغامِرين ما يعني عدم الاكتراث بما بعد الثروة”.

 مؤشرات لنتائج مستقبلية خطيرة

وأشار د.عبد  الشاهر “توليد” إلى وجود مؤشرات لنتائج مستقبلية خطيرة لم يعها بعد العاملون وأسرهم المنتشرون بين الحراقات و تحت سحب الدخان وفوق الإشعاعات الصادرة من أعماق الآبار النفطية دون اكتراث لصحَّتهم وسلامة أطفالهم وزراعاتهم، وعدم تطبيق أدنى تعليمات السلامة المهنية و استخدام وسائل الوقاية من انطلاق غازات ناتجة عن عمليات الحرق اللازمة لتسخين النفط، لأن عملية الحرق ذاتها تتم باستخدام النفط الخام نفسه، و هو الذي ثبت احتواؤه على مواد خطرة جداً، لافتاً إلى أن هذه العملية “المتخلِّفة” تُنتج سحباً كثيفة من الدخان المترافق مع الغازات المذكورة، ومادة النفط الخام المستخرجة من أعماق الأرض تحتوي على نسب معينة من الإشعاع، و تختلف هذه النسب حسب موقع و طبيعة جيولوجية البئر، و هذه الإشعاعات هي مسبِّب رئيس للإصابة بالسرطان مثل سرطان الجلد والرئة، ولها تأثير مؤكَّد على السلامة الوراثية، و احتمال إنجاب مواليد مشوَّهة، من الغازات الناجمة عن الاستخراج البدائي للنفط هو غاز الكبريت “السام جداً” و لاسيما أنه عديم الرائحة و يتسبَّب بفقدان مباشر لحاسة الشم و الوفاة المباشرة عند وصوله لنقطة التركيز “عشرة أجزاء من المليون”  وإن كانت هذه  الطرق المتخلفة تدرُ أرباحاً كبيرة جداً على تجار النفط وبعض أبناء القرى التي يتموضع فيها البئر، إلا أن ذلك يغامر  بحاضر و مستقبل أهلهم ومنطقتهم ووطنهم.

 تدمير للزرع والضرع

وفي السياق ذاته أوضح المهندس محمود حيو مدير زراعة دير الزور أن عمليات التكرير تتم ضمن الأراضي الزراعية، وهذا له أضرار مباشرة وكبيرة قد لا يعرفها الفلاح أو الإنسان العادي غير المختص على القمح والشعير والقطن، والأخطر من ذلك على الخضار التي تستهلك بشكل يومي.. وعمليات التكرير الجارية وبكثرة لها مضاعفات كارثية ومستقبلية على نوعية التربة، بسبب ترسُّب المواد الناجمة عن الحرق والدخان على الأتربة الزراعية وعلى أوراق النباتات، وبالتالي انتقالها إلى الإنسان والقطعان بطريقة مباشرة  وغير مباشرة وحسب نوعية النبتة،  لأن ريف محافظة دير الزور يعد المصدر الرئيس لغالبية الخضراوات الزراعية التي يتم توريدها إلى المدينة والمناطق المجاورة  كلها قبل الأزمة، ونتائج ذلك بدأت تظهر على الزرع والضرع والبشر، فالحيوانات تنفق، والطيور هجرت المنطقة، وحتى الطيور المهاجرة لوحظ عدم استراحتها في المنطقة كما هي العادة، ومردود الخضار انخفض إلى النصف، وكلما طالت الفترة ازدادت نتائجها الكارثية على المحافظة، ولا احد يضمن ما ستؤول  إلية النتائج في المستقبل.

 تدمير البيئة الفراتية

من جهته محمد رمضان مدير البيئة في المحافظة قال: لم يعد خافياً على أبناء محافظة دير الزور انتشار ظاهرة تجميع النفط الخام تمهيداً لتنفيذ عملية تكرير بدائية له عن طريق تسخينه وتمريره عبر أنابيب لتُستخلص منه مادتا البنزين والديزل، كما لم يعد مستغرباً انتشار سحابات الدخان الكثيفة الناجمة عن عمليات تكرير النفط الخام والتي ارتسمت في الأفق على مدار الساعة مهددة بذلك الإنسان والزرع والبيئة.

وعلى الرغم من الإنذارات الكثيرة التي أطلقتها مديرية البيئة حول مخاطر هذه العملية المتخلِّفة علمياً، إلا أن ظاهرة تكرير النفط الخام ما  تزال مستمرة لتُنذر بالكثير من الأمراض الخطرة وعلى رأسها الأمراض السرطانية بكل أشكالها، إضافة إلى التشوُّهات الولادية التي ازداد احتمال ظهورها قريباً، ناهيك عن التأثُّر المباشر لكل أنواع الزراعة بنتيجة الترسبات الخطيرة والسامَّة على أوراق النبات.‏‏

 تحذيرات بيئية

وأكد مدير البيئة إلى وجود كل المؤشرات الخطيرة لنتائج مستقبلية ستكون كبيرة وخطيرة لم يعها بَعد  المنتشرون بين الحراقات وتحت سحب الدخان وفوق الإشعاعات الصادرة من أعماق الآبار النفطية دون اكتراث لصحَّتهم ولبيئة بلادهم وسلامة أطفالهم وزراعاتهم، حيث يؤكد التقرير الرسمي الذي أصدرته مديرية البيئة أن مادة النفط الخام المستخرجة من أعماق الأرض قد تحتوي على نسب معينة من الإشعاع، وتختلف هذه النسب حسب موقع وطبيعة جيولوجية البئر.

مواليد مشوَّهة

ونبه رمضان من أن هذه الإشعاعات هي مسبِّب رئيس للإصابة بالسرطان وأهمها سرطان الجلد والرئة، ولها تأثير مؤكَّد على السلامة الوراثية وازدياد احتمال إنجاب مواليد مشوَّهة، والخطورة تكمُن أن إنذار التشوُّه الولادي سيصبح حقيقة خلال سنوات قليلة قادمة، كما أن من الغازات الناجمة عن الاستخراج البدائي للنفط غاز الكبريت “السام جداً” لا سيما أنه عديم الرائحة، ويتسبَّب بفقدان مباشر لحاسة الشم، والوفاة المباشرة عند وصوله لنقطة التركيز “عشرة أجزاء من المليون” والإجراء الطبيعي هنا تركيب محطات لفصل الغاز، وبالتالي سلامة الإنسان والبيئة.‏‏

 غازات خطيرة

وأشار مدير البيئة إلى أنه وأثناء الكشف على مواقع التكرير البدائي للنفط لوحظ انطلاق غازات ناتجة عن عمليات الحرق اللازمة لتسخين النفط، لأن عملية الحرق ذاتها تتم باستخدام النفط الخام نفسه، وهو الذي ثبت احتواؤه على مواد خطرة جداً، ولأن هذه العملية “المتخلِّفة” تُنتج سحبا كثيفة من الدخان المترافق مع الغازات المذكورة.

 بيئة حاضنة للأمراض

وفي المقلب الأخر دق الدكتور عبد نجم العبيد مدير الصحة في المحافظة ناقوس الخطر قائلاً: شهد ريف المحافظة انتشار العديد من الأمراض لاسيما السرطانية، نتيجة قيام المجموعات المسلحة وخاصة في ريف دير الزور بالاعتداء على خطوط النفط واستخراج كميات كبيرة منها، وتكريرها بطريقة بدائية، وهذه الإشعاعات هي مسبب رئيس للإصابة بالسرطان وأهمها سرطان الجلد والرئة، ولها تأثير مؤكَّد على السلامة الوراثية، ‏‏وازدياد احتمال إنجاب مواليد مشوَّهة، والخطورة تكمُن أن إنذار التشوُّه الولادي سيصبح حقيقة خلال سنوات قليلة قادمة، كما أن من الغازات الناجمة عن الاستخراج البدائي للنفط هو غاز الكبريت “السام جداً” لاسيما وأنه عديم الرائحة ويتسبَّب بفقدان مباشر لحاسة الشم والوفاة المباشرة عند وصوله لنقطة التركيز “عشرة أجزاء من المليون” والإجراء الطبيعي هنا تركيب محطات لفصل الغاز وبالتالي سلامة الإنسان والبيئة.‏‏

 نتيجة حتمية

وأكد العبيد أن العاملين بهذه المهنة سوف يصابون حكما بعدة أنواع من السرطانات، أهمها سرطانات الرئة، إضافة لتشكيلة أخرى من المرض، كسرطانات الجلد والمثانة، وأخطرها الجرب النفطي، نتيجة التعامل المباشر مع النفط الخام، وظهور حالات ولادة أطفال مشوهين، مشيراً أن حالات إجهاض عديدة حدثت نتيجة تعرض النساء للنفط الخام أو المشتقات النفطية الناجمة عن التكرير المنزلي والدخان الناجم عنه، وكذلك مرض التدرن الرئوي “السل الرئوي”، والحمى التيفية والمالطية وشلل الأطفال واللاشمانيا، فأصبحت المحافظة حاضنة للأوبئة والجراثيم المسببة لها، كما لعب تكرير النفط اليدوي دوراً كبيراً في زيادة انتشار الأوبئة في المنطقة.

وعن الأسباب الرئيسية لانتشار المرض في المنطقة، فقد أوضح العبيد أن جميع الحالات ظهرت في مناطق تعد نسبة تلوث الهواء فيها عالية، حيث تتشكل فوق قرى الريف وخاصة ريف الميادين، و مازاد الطين بلّة تراكم القمامة وجريان مياه الصرف الصحي في جداول صغيرة  في بعض المناطق بسبب انسداد اقنية الصرف الصحي، وعدم وجود آليات لتعزيلها مما ادى إلى توسع المستنقعات المجاورة للقرى، هذا سبّب تضاعف أعداد الذباب والحشرات الناقلة، والتي سببت ازدياد حالات المرض.

 انتشار الأمراض الوبائية

وأضاف العبيد قائلاً: تعرضت المحافظة لموجات من الأوبئة، ومنها التهاب الكبد الإنتاني والجرب، وشهدت الآونة الأخيرة حملات تلقيح مكثفة لمكافحة مرض شلل الأطفال.. ويعزو مدير الصحة انتشار الأمراض الوبائية في المحافظة إلى كثرة حارقات النفط البدائية الموجودة في الريف والتي ساهمت في تلوث الهواء والماء والتربة، لافتا إلى تضرر ونهب وحرق وسرقة 80 % من المشافي والنقاط الطبية في المدينة على أيدي المجموعات الإرهابية المسلحة، وتعاني المحافظة من نقص حاد في الدواء بسبب شحن جزء كبير من مستودعات الأدوية في المدينة إلى خارجها، إضافة إغلاق معظم الصيدليات أبوابها ما دفع بالبعض إلى تناول أدوية منتهية الصلاحية، واللجوء إلى أساليب بدائية وأولية في العلاج، وما زاد من معاناة  أبناء المنطقة هو هجرة أطباء المدينة وريفها.

 الدير تستغيث

لا نبالغ إذا قلنا إن مدينة النخيل والرمان والنفط والغاز والقمح والقطن واللبن والسمن والفرات والخابور أمست مدينة خاوية على عروشها، استوطنتها المجموعات الوهابية المسلحة، وجعلت أعزة أهلها أذلة، وعاثت الفساد في ربوعها، وكل أمراض الكون من شلل الأطفال والسل والطاعون وحبة حلب، وصولاً إلى سرطانات لم تعرفها مختبرات العلم الحديث إلا في دير الزور، أبناؤها الأطباء هجروها، والصيدليات أغلقت أبوابها، إلا ما رحم الله، والمشافي أحرقت ودمرت، وأجهزتها سرقت ونهبت وهربت، والمريض اليوم حتى يصل إلى العاصمة إما أن يموت وهو في الطريق إلى دمشق بعد 24 ساعة سفر، أو مطلوب منه أن يستأجر وسيلة نقل خاصة بـ200 ألف.. أما من يحتاج إلى بعض الدواء النصف نادر فعليه أن يجلبه له أحد الأحبة من دمشق، أو يضطر أن يسفّر أحد أفراد عائلته لإحضاره من دمشق!.. نعم، مدينة الذهب الأبيض والأسود، وفرات الحياة، مسكونة اليوم بالذبح والجهل والأمية والأوبئة، وأهلها يناشدون الوطن وجيشه الباسل وقائده الأمين.. بتخليصهم من هذا الوباء الجاهلي المركب.