مساحة حرة

العلمانية والوطنية

على الرغم من تمسك الخطاب العربي في بعض الدول العربية بمصطلحي العلمانية، والوطنية، ودعوة المواطن الدائمة للحفاظ على وطنه، والاستثمار فيه، إلا أنه لايزال قاصراً على الوصول للإيمان به، والسير على مبادئه، وفلسفته، وكأني به يقدم العنوان دون شرح، ويدعو إليه، وهو يعرّف الواقع الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، والديني الذي يتعايش معه قسراً، بدلاً من مطالبته، والعمل لتحويله إلى عيش وتكامل، ولم نجده، أي الخطاب العربي، إلى اليوم الذي نحياه، قد حاول الوصول ولو جزئياً، إلى هذا المفهوم، فكيف به ينادي بعنواننا الواسع، والعريض، أي بشموليته ذات الأبعاد الكلية: علمياً ومعرفياً، فهمياً، تطبيقاً واقعاً لا نظرياً، والسبب هو تمتع مجتمعاتنا بالحالة الروحية التي شكّلت البناء الخفي، وتسكن جوهر إنساننا العربي، غير أن هناك أحزاباً اقتربت من عنواننا، وحتى لامستها، لكنها لم تستطع حتى اللحظة أن تدخل عليها.وللأسف فإن كثيراً من المفكرين العرب رفضوا هذا العنوان، وأوصوا بعدم الأخذ به، واعتبروه لا يتناسب مع واقعنا التاريخي الإسلامي، ويخصّ فقط الدول ذات الاعتقاد المسيحي، وغايتهم إبقاء العوالم العربية الإسلامية على حالها، تعمل بشرقيتها المستندة بشكل رئيس إلى الغيبي، والذي يبتعد عنه ملحد وزنديق أشر، لهذا وصلنا إلى هذا العنوان الذي أضحى من الضرورة بمكان تناوله، وطرحه بقوة للنقاش، والأخذ بنواصيه أمام حركة، وعزم التسارع العالمي، ومحاولات الدول العربية الخروج من نفق أزماته المتلاحقة، وتشرذمه الديني المؤخر لعملية تقدم، وتطوير، وتحديث فكر هذه الشعوب.

مما تقدم يتضح أن جدلية مفردتي عنواننا مازالت تأخذ حيزاً مهماً من فكر مجموع دول العالم الثالث برمته، كونه يتضمن مجتمعات مازالت العلاقة الدينية مؤثرة جداً بين أفرادها، من حيث إنها موروث تراكمي سكن هذه المجتمعات، لينشأ صراع وجدل كبيران لحظة حدوث حوار ونقاش، محوره مفردتا العنوان اللتان ما إن يتم طرحهما حتى تنقسم الأفكار بين مؤيد بحماسة، ومعترض حتى الرفض، وصامت فيما بينهما، فالمتدينون يتهمون العلمانيين بالإلحاد مباشرة ودون مواربة، فيعتبرونهم ماديين يؤمنون بفلسفة وجودهم الدنيوي فقط، ونظرتهم فيها مجردة عن الأديان يتمسكون بنظرية العقل، وقدراته على التأمل والبحث والتفكر العلمي المادي، بغاية الوصول الدائم إلى الأفضل، لا يكتفون بالاختراع والإبداع، إنما يسعون لاستمرار التأمل فيما أوجدوه، مستثمرين فيه ومطورين دائمين له، الاستكشاف يعني لهم تطويراً حقيقياً لإنسانية الإنسان، لذلك تراهم يعتمدون بشكل كلي على الاستثمار فيه، وإني لأختلف مع من يعتبر العلمانية معتقداً مرناً أو صعباً، ورغم الشروحات والإيضاحات والبنى الفكرية التي تمسكت بطرحها وتناولتها، فإني أجدها تتضمن مجموعة أسس ليست بالمعقدة، يمكن لأي مجتمع أن يأخذ بها من باب أنها تتواءم ضمنه، وتتقبل التكيف معه، كما أن القائلين بأنها «فصل الدين عن الدولة»، أو واصميها بالإلحاد، فإني أعتقد أن لهم غايتين: الأولى تعمل من منطق ديني، بإرادة إبقاء جبروت السلطة الدينية على المجتمعات والأفراد بقوة، والعمل على ديمومة هيمنتها وهيبتها، والثانية ناتجة عن عدم فهم مضمون العلمانية التي لا تلغي السلطات الدينية، وإنما تريد منها أن تكون في حالة انخراط دائم لعمليات التطوير، وأن تنكفىء على بناء الجوهر الروحي القائم داخل الصورة الإنسانية، وبشكل أدق أن تعمل على تعزيز إنسانية الإنسان التي تؤمن بالكل لا بالتفرد، وإقصاء الآخر، أي انطلاقها يكون من مفاهيم الإيمان بالآخر والجمع، لا الأنا الفردية، والعمل من الحاضر إلى المستقبل، لا الرجوع إلى الوراء الذي اعتمد فيه الماضي على الغيبي، وأوقع حضوره فيه.

العلمانية قامت بجهود المفكرين الأوروبيين، وجاءت بمثابة الحل الاستراتيجي للنهوض بمجتمعاته بعد أن سادتهم قرون الظلمات، وأوقعتهم في التخلف الخطير نتاج تسلط القيمين على الأديان، ما حدا بهم لأخذ نواصي المجتمعات، والسير بها من الحاضر إلى المستقبل، بعد تقديم خطوط واسعة وعريضة، سمحت بعد أن أقنعت إنسانها بالسير عليها والبناء فيها، طالما أن الإنسان متحرك إلى الأمام في زمنه المحتكم إليه، وطالبت إنسانها بالأداء والبناء مما أنتج حينما شاهد بناءه يسمو وأداءه التخصصي أصبح نوعياً ومطلوباً لظهور عاملي الولاء، والانتماء اللذين أصبحا أُسي الوطنية التي عادت على إنسانها بعد أن آمن بها بالهوية أولاً، والجنسية ثانياً.

كثيراً ما يخلط الساسة، أو الاجتماعيون، أو المتدينون بين الدولة العلمانية، والدولة المدنية، والدولة الدينية، مع إنه من الممكن لهذا المثلث أن يجتمع في بوتقة دولة واحدة، يكون فيه التدين، أو اعتناق مذهب، أو الانتماء روحياً لعقيدة، أو لدين، مكوناًً من مكونات بناء الدولة، بعد أن أثبت التاريخ الماضي منه والحاضر عدم نجاح أية دولة دينية، وبما أن الدولة المدنية تستند في بناء مدنيتها إلى المجتمع، وتعتبره المنتج لسلطاتها الثلاث السياسية، والتنفيذية، والتشريعية، وأن الجميع يخضعون للقانون، والتساوي أمامه في الواجبات والحقوق، وأيضاً تعتبر أن المواطنة يضمنها الدستور، تظهر الدولة العلمانية كمديرة رائدة وقائدة لمبدئي الدين، والمدنية، ومستندها تحرر الإنسان العلمي، والفكري، والاقتصادي، تستمد من العلوم الإنسانية قيمتها وقوتها، هذه العلوم التي ما كانت لتكون لولا فلسفة الأديان، وقوة حكمها لروح الإنسان.

وحينما نعلم أن الوطنية لا تحضر إلا من رواج مفهوم العلمانية، وتحقيقه على أرض الواقع، وسكنه في تلافيف العقل الإنساني، وظهور هرمية الدولة كوحدة متجسدة منه، ومنتشر بقوة بين مداميكها، نتيقن ونؤمن بأن الوطنية انتماء حقيقي للجغرافيا، وولاء لا متناهي الأبعاد من خلال الأداء إيجابي المنتج، كما أننا ندرك من تمتعنا بها بأنه المصير الأولي والنهائي القابع  بين المنبع والمآل، وأن تحول الوطنية إلى جينات نورثها ونتوارثها بعيداً عن ثقافة هدم الآخر، أو إقصائه، أو تحقيق مكاسب على حساب هذا أو ذاك، وأنها العمل المشترك والتكامل الخلاق الإبداعي الذي يتمم بعضه، فيظهر، من خلال كل هذا التجسيد، الوطن بأبنائه الذين يعملون له دون أن يفصحوا أو يعلنوا بأنهم وطنيون، يؤمنون بها كعقيدة تتماثل في قوتها مع أية عقيدة روحية، إلا أنها تختص في جغرافيتها التي تكون عليها دولتها، أو أمتها، أو قوميتها، فالدين شمولي عام، وهي متخصصة وهوية تحيا بين حدودها، عملاً بفلسفة الحق التاريخي المحدد لجغرافية مجموعة إنسانية لها شخصية وهوية، لذلك نتحدث عنها، أي أن الوطنية نسبة إلى التوطن في الوطن الذي لم يعد ذلك الوطن العربي الكبير، بل غدا لكل وطنه ودولته، بعد أن قسمته الاتفاقيات العالمية، وأيضاً حولته إلى عوالم، بعد أن كان أيضاً عالماً عربياً واحداً، أوجدت بينه الحدود السياسية ليصبح لكل واحد من عوالمه دولته التي هي وطنه الحقيقي، وله مواطنوه، بحتمية تنوع مواطنيه، وتعدد مذاهبهم ومشاربهم، إلا أنهم حين يتمتعون بالوطنية، ويعتنقونها، يصبحون مؤمنين بدولتهم، حمايتها غايتهم، وصورتها صورتهم، وجوهرها جوهرهم.

إن الوطنية ممارسة، وفعل، وانفعال، وانتظام ضمن النظام العام، تفتخر بثقافتها، وإنجازاتها في سياق التاريخ الحداثوي، والحاضر تستلهم منه المستقبل، وضرورة الانخراط في صناعته، إنها تحترم رموزها، وعلمها، ونشيدها الوطني، وتنصهر في بوتقته/بوتقتها/، تحافظ على سيادته، وعنفوانه، وتزدهر بحضوره بين الأمم.

إن أية أمة أو دولة لا يمكن لها في زمن الحداثة أن تبني حضورها على أساس طائفي أو عرقي، والانتباه عند قيام الدولة إلى تعميم مبدأ التسامح مع جميع أشكال الاعتقاد : الديني، الفكري، الاجتماعي الذي يمنحها قوة الإيمان بها، كما أن الاتجاه إلى الإكراه في قضايا الدين أو محاولات مسح الإرث الاجتماعي الجيد ينجب سلوكاً سلبياً وعقيماً، ويعتبر المسير فيه خطيئة تؤدي إلى انفجار الأزمات بين الفينة والأخرى، لذلك نلاحظ أن دولنا العربية مازالت بعيدة جداً عن مفاهيم العلمانية والوطنية، وحتى عن أسس الدولة المدنية، فكيف بدولة مدنية، أو علمانية تستند إلى مرجعيات دينية؟! وهناك الكثير من المنتسبين لدولنا ينادون بها كبديل عن الدولة العلمانية.. إن دستور العلمانية قائم على الهوية والجنسية الذي ينص على المساواة بين جميع المواطنين، لا يفصل بين دين وآخر، يسمح بوجودها، وممارسة طقوسها، كما يسمح بصون حقوق الإنسان، وحقوق الأقليات.

من هذا وذاك نصل إلى أن تحقيق مفهومي الحرية والديمقراطية، لا يمكن لهما أن يظهرا إلّا بعد وصول الدولة إلى التمتع بأسس، ومبادىء العلمانية الحاضن الرئيس للوطنية، المسؤولة من المواطن عن وجود وطن بشكله النهائي، ومن خلال النظر إلى الحلول التي أعتقد أنها قادمة وبقوة ليس لبعض الدول العربية، وإنما لجميعها، إضافة إلى الدول الإسلامية، هي في الاتجاه للأخذ بموضوعية العلمانية، والوطنية، ولنأخذ مثالاً: أوروبا، وأمريكا، وشمال آسيا، واليابان.. إن ترك حرية المعتقد، واختيار الاعتناق أديا إلى الاتجاه مباشرة لفكرة المواطنة والوطنية التي بها تم بناء الدول، وترك للفرد فيها حرية الاتجاه إلى أين يشاء، فاتجه إلى دولته، آمن بها لم يهاجر منها، لم يخنها، لم يعمل على هدمها، بل انخرط فكرياً، وعلمياً وعملياً في عمليات تطويرها، وزيادة قوتها، ومنعتها، ذهب مبشراً لما يعتقد، نجح أم لم ينجح- مسألة تخصه- وإذا اتجهت دولنا العربية الإسلامية إلى ذلك، نالت احترام الآخر، وتقبّلت الشخصية العربية، مارست الدعوة أم لم تمارسها، بحكم أن تحول الفرد إلى الإيمان بالدولة الوطنية، وتمسكه بوطنيته يمنعه من ارتكاب الخطايا، ويهذبه، ويؤنقه، ويحضره.

لم يعتد الخطاب العربي نظام تداول السلطات، ولم ينتبه إليه بالنية الحسنة، أو المعرفة الخفية، بأن سبب أزماته، وتواترها عليه، وهدمها الدائم لبناه الفكرية والمادية، عدم اعتماد نظام اجتماعي خاص به، وتلاعبه على الحبال بين هذا وذاك أدى إلى نهايات سيئة للغاية، والشعوب العربية تدفع الثمن غالياً: أرواحاً، ومادة، وبنى تحتية، وفوقية، لم ينتبه خطابنا العربي إلى حركة الزمن ومجرياته، وأننا كلما اقتربنا من وضع قدم على طريق التطور نعود إلى ما تحت الصفر، هل نسأل: لماذا يجري معنا نحن الإنسان العربي الحي المتوزع على مساحة دول، وممالك، وإمارات، وسلطنات؟؟ وحينما ينادي كل بخصوصيته، أي بوطنه، ينبغي أن نعلم من خلال هذه المناداة أننا منقسمون حقيقة، ومنه نجد أن تختار كل دولة نظام حياتها ومسيرتها، وصحيح أن المظلة العربية أعطت للإنسان شخصية العربي، إلا أننا نسأل العربي اليوم، فكيف يجيب أنا عربي سوري، وذاك مصري عربي، وآخر مغاربي أمازيغي، وبعده خليجي سعودي …إلخ، فهل نحن أمة عربية، وعالم عربي، أم أننا غدونا شعوباً وعوالم؟!! ولذلك، أرى أن الحل في الاتجاه إلى العلمانية التي تعزز الوطن من وطنية الفرد.

د. نبيل طعمة

البعث