ثقافة وفن

مسرحية «نديمة».. «وجوه» المعاناة السوريّة

“الهوى غلاّب” هي عنوان القطعة التي ردّدتها “أمّ كلثوم” و(نديمة) ساهمةٌ في خيالاتها بين حبال الغسيل، وبعد وضوح الصورة في أذهان الحضور انتقلت عدوى الانتظار لديهم إلى أنّ جاء صوتٌ يعلن بداية العرض المسرحي، ليسود الصمت وتبدأ مراقبة المشاهد لشخصياتٍ عديدةٍ جسّدتها نديمة في مونودراما مكثّفة امتدّت قرابة ساعة من الزمن.

ونديمة هي بالاسم جاءت لشخصيّة واحدة حسب تعريفها عن نفسها للجمهور في البداية، لكنّها وعبر مسار العرض كانت مجموعة من الشخصيّات التي مثّلت كلّ واحدة منها وجهاً مختلفاً عن الآخر، وعن ذلك يقول مؤلف ومخرج المسرحيّة “علي صطوف”: “نديمة هي مجموعة كبيرة من الشخصيّات والعوالم، وهي تمثل الفسيفساء السوريّة في محاولة لمقاربة هذا المجتمع السوري، ونديمة هي نتاج وحصيلة لأزمة سوريّة، فحاولنا قدر الإمكان الإحاطة بمجموعة كبيرة من المشاكل التي ولّدتها الأزمة،وذلك عن طريق رموز معيّنة، كحالة الثياب المنشورة، والطريقة التي تغسل نديمة يديها فيها، وكيف تراجع ذكرياتها…”.

لحبل الغسيل الذي أخذ صوراً متعددة بين ثيابٍ تقطر الماء، وأخرى ملونة وأخرى جافة وأخرى معلّقة بطريقة عشوائية أو مربوطة مع بعضها البعض إلى آخره من الصور منح المشهد غناً كبيراً من الرموز، فالثياب على أنواعها هي أفراد المجتمع، وتلوّنها كذلك، وطريقة نشرها له حكاية. وبين كلّ الحركات التي قامت بها نديمة، وأنواع الغسل،والنشر على الحبال، ولمّ الغسيل كان لفضاء المسرح امتلاءاً مميزاً وبعداً واضحاً بين كثرة الرموز ومحاولة الفصل بينها، وكأنّ الثياب عبارة عن جماعاتٍ متقاربة في مشاهد ومتباعدة في أخرى.

تناغمت نديمة مع حالة الذكريات وسردها، والتي حملت بعض القلق للمتلقي، ففي كلّ شخصيّة هناك شكوى والمزيد من التذمر، ولكن جاء الانتقال السريع بين الشخصيّات منقذاً للعرض،فلفت انتباه المتلقي لرؤية جديد الشخصيّة القادمة جعله متناسياً لتعب الشخصيّة التي سبق تقديمها. الفنانة “روبين عيسى” التي جسّدت شخصيّة (نديمة) نوّهت عن هذا الموضوع بقولها: “العرض مرهق بصورة عامّة لي، فنديمة فيها الحركة، والتكنيك، والفصل، والانتقال بين الشخصيّات. وبالإضافة لكل ّذلك نديمة لديها جهد عضلي وحسّي، فهي حاملة للهمّ والوجع، وهي الأمّ، والحبّ، والأمل، والفقدان، والرغبة، ولديها تعب نفسي وجسدي، ففي كلّ الوقت تتحدث، وتغسل، وتنتقل بسرعة بين كلّ شخصيّة وأخرى”.

امتلأ عرض نديمة بدقائق تلامس جوانيّة كلّ فرد منّا، وكان للحبّ مساحته الأعظم، فنديمة تتذكر حبيبها بهاء، وتلومه، وتشتاقه، وتغفر له، وترسل مشاعر الأمومة للطفل، وتعبّر عن رغبتها في الإنجاب …إلخ، ثم تؤرخ لحالة الشهوات التي تعرضت لها من خلال ظروف وقعت بها ما بين سلوك التربية البيتيّة وسلوك المجتمع وتطرفه، ودائماً هناك عودة لحالة الصدق التي تجمع بينها وبين أيّ شخص يشاهد العرض، ويبدو أنّ الغرض من إلقاء الضوء المفاجئ على الجمهور هو ما أراده المخرج في جعل الجميع مشترك في المسألة، بل ومكشوف في أفعاله مهما تستّر، وغاب، وتخفّى.

 

نديمة.jpg 22

عن الحلّ الذي قدّمه عرض نديمة المسرحي أضاف المخرج علي صطوف:” لا تستطيع نديمة تقديم الحلّ أبداً، بل دورها أنّتوثّق لمشكلة، وتعرض همومها بكلّ حبّ وأملّ،فقدّمت وجعها وعرضته كما هو، أمّا الحلّ فهو بيد الآخرين، وعرض نديمة يقول: أرونا حلولاً وتحركوا…”. وبدورها روبين عيسى أيضاً علّقت: “نديمة تحكي أوجاع تُمثل حقائق فينا كمشاهدين، وقد لامستُ شخصيّاً هذا الواقع بسبب كثير من الأشخاص، فمنهم من عبّر ببكائه، ومنهم بشكره، ومنهم بتصفيقه …إلخ، فكلّ شخص منّا تمسّه نديمة بناحية أو تعنيه على الأقل”.

حاول العرض أنّ يكون بإيقاعه منسجماً مع كلّ الهموم التي مرّت بها سورية خلال السنوات الفائتة، ولذلك كان هناك إشارة للحالة الدينيّة وطريقة الصلاة، وانطباق الهموم واختلافها، وتمّ انتقاء تنوع غريب للموسيقا والأغاني التي رافقت مشاهد العرض قبيل العرض وحتى نهايته، وقد اعتنى المخرج بمزيد من التفاصيل كوجود بخار حقيقي على منصة العرض يخرج من أوعية الغسيل، ومع نهاية العرض كان لقطرات المياه التي اغتسلت تحتها نديمة إيقاع واضح للخروج من الدوامة والانطلاق نحو أفق مختلفة، وكرّس هذا الطابع لغة الصوت التي صدحت في المكان، كدعوة صريحة للبناء والانطلاق دون تأثر بالماضي وما مرّ من إزعاجات رافقت كلّ شخص في الوطن – جاء الصوت لعلي صطوف– الذي علّق في الختام مضيفاً: “أرادت نديمة من خلال العرض القول، وبالرغم من كلّ الهموم والمشاكل، بأنّه لديها مؤونة من الحبّ تكفي العمر، وكذلك هي سورية لديها مؤونة من الحبّ، والألم، والفرح تكفي لأعمارٍ وأعمار، فسورية تحمل 12 ألف عام من التاريخ لن تقف أمام أربع سنوات من الأزمة، فجرعة الحزن في العرض ليست لاجتراره أبداً،وليست للاستجداء، بل للإشارة إليه فقط”.

بقي أنّ نذكر بأنّ عرض نديمة برعاية وزارة الثقافة، مديرية المسارح والموسيقى، وكانت الدراماتورجيا لـ(رانيا ريشة)، وساعد في الإخراج (نوفل حسين)، أمّا الإعداد الموسيقي فلـ(باسل صالح)، وتصميم الديكور لـ(محمد وحيد قزق)، والتنفيذ الفني للديكور لـ(ياسمين أبو فخر)، وتصميم الملابس لـ(ريا قطيش)، وتصميم الإضاءة لـ(بسام حميدي)، والفوتوغراف وتصميم الإعلان لـ(بسام البدر)، والمكياج لـ(سامية فريسان)، ومدير المنصة (هيثم مهاوش).

 

البعث ميديا – عامر فؤاد عامر