صفوان قدسي: دور البعث ومشروعه القومي ما زالا قائمين والمتغير هو وسائل وأساليب العمل
< تمر الذكرى الثامنة والستون لتأسيس الحزب، في ظل الأزمة السورية التي دخلت عامها الخامس، والتفكّك العربي غير المسبوق، والظروف الإقليمية والدولية المتوترة، كيف تنظرون إلى دور الحزب ومشروعه القومي اليوم؟.
<< في تقديري أن دور الحزب ومشروعه القومي ما زالا قائمين، تماماً على نحو ما كانا عليه منذ التأسيس، أما المتغيّر فهو الوسائل والأساليب الممكنة والمتاحة لأداء الدور ولتحقيق المشروع.
ولكي أكون على درجة كافية من الوضوح، فإني سوف أبادر إلى القول إن الحزب من دون مشروعه القومي، لا يبقى أمامه مسوغ لوجوده واستمراره. ذلك أن الحزب في تعريف من تعريفاته المتعددة والمتنوّعة هو فكرة، حتى لا أقول إيديولوجيا. والفكرة هي التي تصنع المشروع، وهي التي تستولد البوصلة وتغدو المرشد والدليل. وإلا فما هو معنى أن يكون الحزب ولا تكون معه الفكرة، وكيف للفكرة أن تكون من دون أن تؤدي دور المرشد والدليل، وكيف للمرشد والدليل أن يكونا من دون غاية كبرى تسعى الفكرة إلى بلوغها، وكيف للفكرة أن تتحوّل إلى واقع محسوس وملموس من دون وجود الحزب الذي هو الأداة الأعلى والوسيلة الأرقى للتعامل مع هذا الواقع التعامل المناسب الذي يؤدي إلى تطويعه وترويضه، وصولاً إلى تغييره وتبديله.
ما الذي يعنيه ذلك كله؟.
القصد والغاية والمأرب هي القول إن هناك علاقة تفاعلية، وصلة تكاملية، بين الحزب والفكرة. ذلك أن الحزب من دون فكرة تسعى إلى بلوغ هدف محدّد، يغدو مجرد تجمع عشوائي لمجموعة من البشر سرعان ما تنفجر وتتبعثر لتغدو في نهاية المطاف نسياً منسيا. ذلك أن الحزب ليس هدفاً في حدّ ذاته، بقدر ما أنه وسيلة لتحقيق هدف، والوصول إلى غاية، هما هدف وغاية ما كان للحزب أن يقوم ويستكمل أسباب وجوده لولاهما.
وما دام أن هناك أواصر قربى وصلات رحم بين الحزب والفكرة، وما دامت العلاقة بينهما تفاعلية، والصلة تكاملية، فإن الحزب والفكرة يغدوان صنوان لا يفترقان.
ومثلما أننا قلنا إن الحزب من دون فكرة تسعى إلى بلوغ هدف محدّد، يغدو مجرد تجمع عشوائي قابل للانفجار والتبعثر والتآكل، فإنه لا بد من القول أيضاً إن الفكرة من دون حزب يحتضنها ويمتلك القدرة على الانطلاق بها صوب الأهداف والمقاصد والغايات التي تسعى إلى بلوغها، تغدو مجرد كلمات مكتوبة أو منطوقة، تحلّق في الفضاءات الشاسعة والواسعة من دون امتلاك القدرة على ملامسة أرض الواقع ملامسة يكون من شأنها الانتقال بالفكرة من عالم الكلمات الذي يقول فيه البعض إنه عالم افتراضي، إلى عالم آخر يمكن وصفه بأنه عالم الوقائع التي تتجسّد على الأرض حقائق محسوسة وملموسة.
وإذا كانت هناك إشكالية تطرح نفسها في ضوء ما أستحسن وصفه بالأزمة في سورية، بدلاً من وصفه بالأزمة السورية، وفي ظلال حالة من التفكك العربي غير المسبوق، إن لم نزد على ذلك وصفاً آخر له هو الانهيار العربي في مواجهة مؤامرة كبرى ما كان لها أن تبلغ ما بلغته، لولا وجود حاضنة لها لم تخلق من فراغ، وإنما هي المولود غير الشرعي للعديد من التراكمات التي أمكن معها تحويل ما سمّي بـ(الفوضى الخلاقة) من مجرد كلام نطقت به (كوندوليزا رايس)، أيام كانت وزيرة للخارجية في الولايات المتحدة الأمريكية، أو (ديك تشيني) وقت أن كان نائباً للرئيس الأمريكي السابق، إلى حالة نوعية أطلق عليها زوراً وبهتاناً اسم (الربيع العربي)، وانساق نفر من النصابين إلى (أدلجة) هذه التسمية وإعطائها معاني ودلالات لا علاقة لها بالواقع، ولا صلة لها بما نحن فيه الآن، على مستوى الوطن العربي، من حالة من التردي والضياع وفقدان البوصلة والاتجاه.
أقول إنه إذا كانت هناك إشكالية تطرح نفسها الآن على دور الحزب ومشروعه القومي، فإن هذه الإشكالية لا صلة لها بالدور والمشروع، وإنما الصلة موجودة في الوسائل والأدوات.
وإذا جاز لي اختزال المشهد، على كل ما فيه من تعقيدات، في كلمات معدودات، فإني أسمح لنفسي بالقول إن الفكرة صحيحة، وما زالت قابلة للحياة والاستمرار، أما الطريق إلى تحقيق الفكرة وتجسيدها على أرض الواقع، فإنها طريق محفوفة بمجموعة من الصعوبات التي لا أحسب أن رفاقنا في حزب البعث العربي الاشتراكي عاجزون عن قهرها والتغلّب عليها.
وبكلمات أقل، فإن الاستراتيجيات صحيحة، أما التكتيكات فإنها في حاجة إلى مراجعة وإعادة نظر.
< كيف تقيّمون علاقتكم بحزب البعث، وهل ما زالت الجبهة الوطنية التقدمية صيغة صالحة للواقع السوري الذي شهد تغيّرات هائلة في السنوات الأخيرة؟.
<< العلاقة بين حزب الاتحاد الاشتراكي العربي، وحزب البعث العربي الاشتراكي، ليست علاقة عابرة أو طارئة أو مؤقتة. ذلك أن العلاقة حين تكون قائمة على قواسم عديدة مشتركة، في الفكر والإيديولوجيا، وفي التوجّه القومي العربي الوحدوي الذي نضيف إليه في حزبنا لمسة ناصرية تأخذ بالحسبان الحقائق المتغيّرة، والوقائع المتبدلة، منذ غياب جمال عبد الناصر عام 1970، فإنها تظل علاقة راسخة وثابتة ومستمرة.
وفي هذا الميدان، كانت لحزبنا صولات وجولات من خلال القيام بمراجعة الناصرية، ولا أقول التراجع عنها، والإبقاء على ثوابتها من دون التمسّك بمتغيّراتها، وكذلك من خلال إقامة جسور موصولة بين ما كان في عصر جمال عبد الناصر، وما كان في حقبة حافظ الأسد، ثم من بعد ذلك ما هو كائن مع الرئيس بشار الأسد الذي قلنا فيه منذ أن تولى مسؤولية قيادة البلاد، إنه الامتداد والاستمرار والاستكمال لحقبة حافظ الأسد، من دون أن نغفل عن مسألتين اثنتين، الأولى هي التركيز على كلمة (الاستكمال)، بمعنى أن ما لم يكن ممكناً تحقيقه وإنجازه في حقبة حافظ الأسد، ينبغي العمل عليه بقيادة الرئيس بشار الأسد. أما المسألة الثانية فهي أن نأخذ بالحسبان ما أطلقنا عليه اسماً محدداً هو اللمسة الشخصية والبصمة الذاتية. بمعنى أن لكل قائد خصوصية حاكمة لأساليب عمله، ويكاد يكون من المحال أن يكون القائد مجرد نسخة طبق الأصل عن القائد الذي سبقه.
وفي سياق الأزمة في سورية، كانت لنا مواقف مشهودة. ونحن نفخر ونفاخر بأننا الحزب الذي لم تشهد مراتبه الحزبية أية حالة انشقاقية على الإطلاق، ولم يشهد واقعه التنظيمي أية حالة يمكن وصفها بأنها تمثل خروجاً عن الحزب، وخطه السياسي، ونهجه الفكري والعقائدي. لم ترتعد فرائصنا، ولم نصب بأي قدر من الهلع والجزع، وشققنا طريقنا وسط حقول من الألغام، وكانت لنا إسهاماتنا، بقدر ما هو ممكن ومتاح، في ميادين التصدي للمؤامرة والحرب على سورية، بحيث أصبح لنا حضور فاعل ومؤثر في بعض مكوّنات وسائل هذا التصدي، ومنها بطبيعة الحال قوات الدفاع الوطني.
أما الكلام في الجبهة الوطنية التقدمية، فإنه كلام في صيغة للعمل الوطني لا نرى لها، نحن في حزب الاتحاد الاشتراكي العربي، بديلاً. ذلك أن هذه الصيغة هي الابنة الشرعية للحظة سياسية حاكمة نشأت مع قيام الحركة التصحيحية، واستكملت أسباب حضورها منذ أن كانت فكرة جنينية، إلى حين ولدت ولادة طبيعية، ثم من بعد ذلك حين صلب عودها، واشتد ساعدها، وبلغت سن الرشد.
وليس معنى غياب بديل لها، أنها ليست قابلة للتطوير وتحسين وسائل عملها، والارتقاء بأدائها إلى مستوى التحديات القائمة، والظروف المتغيّرة، والمناخات المتبدلة. وقد جرت نقاشات واسعة حول هذا الشأن في مؤسسات الجبهة، وفي قيادات أحزابها، وصولاً إلى تصورات مشتركة يكون من شأنها الاستجابة لضرورات تكييف صيغة الجبهة الوطنية التقدمية مع ما سمّيته الظروف المتغيرة، والمناخات المتبدلة.
وبكلمات قليلة فإنه يمكن القول بقدر كبير من القناعة والاقتناع، إن الجبهة الوطنية التقدمية هي الصيغة الممكنة للعمل السياسي في سورية، بصرف النظر عن كل هذا الذي جرى خلال السنوات الأربع الماضية، وذلك بحسبانها تحمل ثلاثة عناوين كبرى سبق لي أن تحدثت عنها مراراً وتكراراً. هذه العناوين الثلاثة الكبرى هي:
1- التعددية الحزبية والسياسية.
2- الوحدة الوطنية.
3- ممارسة الديمقراطية السليمة.
ولعلّ في هذه العناوين الكبرى ما يغني عن المزيد من الشروحات والدخول في التفصيلات.
< ثمّة رأيان متناقضان بخصوص دور الأحزاب السورية في مواجهة الأزمة، أحدهما يذهب إلى أنها قامت بدورها المطلوب وشكّلت إحدى ركائز الصمود الوطني السوري، والثاني يذهب إلى أن أداءها كان أقل بكثير من المطلوب مما يعكس أزمتها وضعفها. من خلال تجربتكم بماذا تعلقون؟.
<< إذا كان المقصود بالسؤال هو الأحزاب الجديدة المرخصة، فإن الكلام يختلف عما إذا كان المقصود هو أحزاب الجبهة. وفي تقديري أن الاحتمال الأول هو الاحتمال المرجح. ذلك أن أحزاب الجبهة تمتلك من التاريخ والخبرة والتجربة والرؤية السياسية والالتزام الوطني والمواقف المشهودة ما لا يستدعي الذهاب إلى التساؤل عما إذا قامت بدورها المطلوب، وشكلت إحدى ركائز الصمود الوطني السوري، مثلما أنه لا يستدعي التشكيك في أدائها الذي يعكس أزمتها وضعفها، من دون تجاهل حقيقة ناصعة في وضوحها، هي أن أداء هذه الأحزاب الجبهوية كان متفاوتاً، حيث إن لكل حزب ظروفه الداخلية التي كانت الحاكمة لهذا الأداء، مضافاً إلى ذلك أن الأزمة في سورية قد قطَّعت أوصال قدرة هذه الأحزاب على التواصل مع قواعدها في العديد من المحافظات. وهذا سبب موضوعي لا تتحمّل هذه الأحزاب مسؤوليته.
أما الكلام في الشأن الخاص بالأحزاب الجديدة المرخصة بعد صدور قانون الأحزاب، فإنه كلام لا يحاول الانتقاص من شأنها، بقدر ما أنه يتناول جوانب ذات صلة بنقص واضح في الخبرة التي لا يمكن اكتسابها إلا من خلال الممارسة، مثلما أنها ذات علاقة بفقر ملحوظ في ثقافتها على وجه العموم، وبثقافتها السياسية على وجه الخصوص.
وحين يكون هناك عنصران بالغا الأهمية في تمكين أي حزب من الاتقاء بأدائه إلى المستوى المقبول، ولو في حدوده الدنيا، غائبين بهذا القدر أو ذاك، فإن ذلك من شأنه أن يؤدي لا محالة إلى استنتاج مفاده أن هذه الأحزاب تحتاج إلى قدر من الزمن لتمكينها من اكتساب التجربة المقبولة، وتكوين الخبرة المطلوبة، قبل أن نحكم لها أو عليها، علماً بأن الثقافة، والثقافة السياسية أولاً، لا يمكن اكتسابها بين عشية وضحاها، وبالتالي فإن الزمن قد يطول قبل أن تتمكّن هذه الأحزاب، وقياداتها على وجه التخصيص، من تخزين القدر الكافي من الثقافة التي تجعلها قادرة على أن يكون لها حضورها في الحياة السياسية.
وفي جميع الأحوال، فإن ذلك كله، ليس من شأنه أن يجعل الجسور مقطوعة بين هذه الأحزاب وبين اكتساب التجربة، وتكوين الخبرة، وتخزين الثقافة. وأحسب أن أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية، بتاريخها وعراقتها وخبراتها وتجاربها المتراكمة عبر عشرات السنين، لن تقصر في العمل على إيجاد قنوات تواصل مع الأحزاب الجديدة المرخصة، بما يؤهل هذه الأحزاب، أو بعضاً منها على الأقل، لمقاربة التجربة الجبهوية والاقتراب منها، على طريق المشاركة الفاعلة في هذه الصيغة من خلال مؤسساتها التي لها من العمر الآن أكثر من ثلاثة وأربعين عاماً من الزمن التاريخي، والزمن السياسي في آن معاً.