في ذكرى تأسيس الحزب.. الرفيق الهلال: المرحلة تقتضي أداء استثنائياً
- 68 عاماً عمر حزب البعث العربي الاشتراكي، منها 52 عاماً في السلطة، ومازال. والسؤال البديهي، من أين استمد القدرة على الاستمرار بالرغم من التحديات الكثيرة التي واجهها في تاريخه؟
في الجواب، لا بد من الإشارة أولاً إلى العامل الفكري. فالبعث استمر لأن أفكاره وتعاليمه، كما أوضح الرفيق الأمين القطري للحزب “ماتزال راهنة معاصرة تلبي مصالح الشعب والأمة وتعبر عن توقها للوحدة والتحرر والعدالة والتنمية”. وثمة عوامل عديدة أخرى تفسر قدرة الحزب على الاستمرار، أبرزها علاقته بالجماهير، وانشغاله بهمومها، وتمسكه بأهدافها، وتفاعله الخلاق مع تطورات الواقع، وإجراء التصحيح اللازم كلما تعرضت مسيرته للتعثر أو الانحراف عن طريق الجماهير. وهناك عامل جوهري آخر لا يستقيم الحديث عن استمرار الحزب ونجاحه في التغلب على التحديات، وتجاوز الصعاب، دون ذكره، وهو دور قائده المؤسس حافظ الأسد، أحد كبار الاستراتيجيين في العالم، كما شهد له العدو قبل الصديق، والرفيق الأمين القطري للحزب القائد بشار الأسد الذي يقود اليوم، بحكمة وشجاعة أذهلتا العالم، معركة الدفاع عن الوطن والأمة ضد الإرهاب التكفيري أداة المشروع الأمريكي الصهيوني الرجعي في المنطقة. والحقيقة أن هذا الدور الوطني العظيم للقائد بشار الأسد كان دوراً حاسماً في بث روح الصمود والتصدي في جماهير الشعب، ورفع المعنويات الوطنية التي كانت أول شيء استهدفه أعداء سورية، وحاولوا النيل منه لتيئييس السوريين، وثنيهم عن مقاومة العدوان. كما كان لهذا الدور، إضافة إلى توجيهات سيادته للحزب، وحرصه على تفعيل أدائه الوطني في مواجهة الأزمة، وتجديد روحه النضالية، الأثر الكبير في تعزيز قدرته على التصدي للعدوان. ويحق لنا، ونحن نحتفل بذكرى تأسيس البعث، أن نفتخر بأن حزبنا قد أنجب هذا القائد الوطني والقومي، الذي هو اليوم أحد القادة الإنسانيين الكبار الذي يناضلون بلا هوادة من أجل عالم خال من الهيمنة والاحتلال والإرهاب.
- تمر الذكرى الثامنة والستون لتأسيس الحزب، في ظل الأزمة السورية التي دخلت عامها الخامس، والتفكك العربي غير المسبوق، والظروف الإقليمية والدولية المتوترة.. كيف تنظرون إلى دور الحزب ومشروعه القومي اليوم؟..
طبيعي في ظل الأزمة أن يبرز الدور الوطني للحزب، وأن يتركز على مواجهة العدوان. وهو دور متعدد الأبعاد السياسية والفكرية والاجتماعية والعسكرية. فالحزب يحارب الإرهاب التكفيري بالتكامل مع الجيش العربي السوري البطل، ويركز على تفكيك إيديولوجيا التكفير الظلامية، واقتلاع جذورها الفكرية، ويساهم في إجراء المصالحات الوطنية حيثما أمكن إجراؤها، ويعمل على تمتين الوحدة الوطنية، وتعميق ثقافة الحوار السياسي الديمقراطي، ويتحرك في مختلف المناطق بين الأهالي لمساعدة المتضررين من الأزمة، والتخفيف من معاناتهم المعيشية. وبموازاة هذا الدور الوطني، يقوم الحزب بدوره القومي، بالرغم من الصعوبات الموضوعية التي تعترضه، من خلال التركيز على تفعيل علاقاته بأكبر عدد ممكن من القوى السياسية والشعبية العربية الوطنية والقومية، من أجل خلق حالة جماهيرية من المقاومة العربية النهضوية، في مواجهة المد الإرهابي الرجعي الذي يجتاح الوطن العربي، ومن أجل تجديد الوعي القومي العربي، وإعادة الاعتبار إلى المشروع العروبي وقضيته المركزية: فلسطين.
ولا بد من الاعتراف هنا أن الوضع العربي هو اليوم في أسوأ أحواله، وأن مشروعنا القومي يواجه واحداً من أخطر التحديات التي واجهها في تاريخه. لكن هذا لا ينقص أبداً من حماسنا له، بل يزيدنا إصراراً على المضي في النضال من أجل تحقيقه، نظراً لأننا نرى فيه وجودنا ومستقبلنا، ونعتقد أنه الهدف الوحيد القادر على تخليص العرب من براثن الاحتلال والهيمنة والاستبداد والتخلف، وإعادتهم إلى مسرح الفعل الحضاري، وإلا لما كان له هذا الكم الهائل من الأعداء الخارجيين والداخليين الذين يقفون ضده، ويعملون بكل ما يملكون من وسائل القوة على تصفيته.
- ظهرت نتيجة الأزمة، بعض الأطروحات الفكرية التي تتحدث عن فشل القومية العربية، وتدعو إلى إعادة النظر بالمشروع العروبي، وثوابت الهوية، ولاسيما العلاقة بين “الوطني” و”القومي”.. بماذا تردون عليها؟!..
ينبغي التفريق بين الأطروحات القديمة-الجديدة المعادية للقومية العربية، والصادرة عن أعداء المشروع القومي في الخارج والداخل. فهذه معروفة الدوافع، وأعداء القومية العربية معروفون، ولا يتوقفون عن التشكيك فيها والتبشير بفشلها وموتها. لكن أصواتهم تعلو أكثر في أوقات الأزمات، وتدهور الأوضاع العربية، ليكون لأطروحاتهم ما يزعمون أنه وقائع ملموسة تؤكد صحتها. هؤلاء، وفي مقدمتهم قوى الرجعية العربية ونخبها، ضالعون في التآمر على الأمة، ومنخرطون في خدمة المشاريع المعادية، ولاسيما المشروع الصهيوني، وتندرج أطروحاتهم في خانة الحرب النفسية، والدعاية المغرضة، لكنها لا تنطوي على أية قيمة فكرية. ولذا ينبغي التمييز، كما أشرت في البداية، بينها، وبين الأطروحات التي تنتقد الممارسة السياسية للحركة القومية العربية، بهدف تصحيحها، وتجاوز أخطائها الذاتية. فهذه الأطروحات الأخيرة تدخل في باب الاجتهاد الفكري المطلوب الذي قد يخطئ أو يصيب. ولذا فإنها لا تثير أية مشكلة. بل تشكل إضافة فكرية مهمة، يمكن الاستفادة منها في عملية المراجعة والنقد والتطوير التي تقع على عاتق القوميين -ونحن منهم- قبل غيرهم. إن كل الأطروحات النقدية البناءة للأداء القومي العربي، هي في هذا الإطار، أمر ضروري في الظروف العادية. لكنها، في الظروف الاستثنائية، والأوضاع المأزومة، كالتي نعيشها الآن على الصعيدين الوطني والقومي، تصبح أكثر من ضرورة. ولقد استجاب المجتمع السوري لتحدي الأزمة استجابة فكرية وسياسية شديدة الحيوية. وحزبنا – على سبيل المثال – شهد تعميقاً مهماً لحالة النقد والنقد الذاتي، وانخرطنا في واحدة من أهم عمليات المراجعة الفكرية والتنظيمية التي قام بها الحزب، والتي كنا أحوج ما نكون إليها لتجديد الحزب وتفعيل دوره الوطني والقومي.
إن المشروع القومي العربي موجود منذ بدايات القرن الماضي، وقد تعرض لنكسات كثيرة في تاريخه، لكنه كان دائماً ينهض من جديد، ويكذّب مزاعم الذين يبشرون بنهايته. والذين يراهنون على أن المشروع القومي لن يقدر على تجاوز أزمته الراهنة لا يقرؤون دروس التاريخ. ذلك أن هذا المشروع ليس ترفاً إيديولوجياً، ولا تصوراً خيالياً، ولكنه ضرورة تاريخية. وما انفك الواقع يثبت، اليوم، كما بالأمس، أن العرب لن يتقدموا إلا في سياق الوحدة القومية. وأن غياب هذا السياق هو الذي أوصلهم إلى الحال المزري الذين هم عليه اليوم.
نعم لقد تلقى المشروع القومي العربي ضربات قاسية. لكنه وكما أكد الرفيق الأمين القطري للحزب “لم يمت ولم يخسر تماماً حتى الآن وهذا بات واضحاً في المزاج الشعبي لأن الحالة الشعبية العامة لم تتغير ولم تبدل هويتها، تأثرت نعم ببعض بؤر التفتت في بعض الأماكن لكن المجتمع العربي لن ينهار بل على العكس.. لأن المشروع القومي هو فكرة انتماء للقومية وبالتالي للعروبة”. وكل هذا يعزز الثقة بمستقبل الحركة القومية، لكنه لا يعفيها من العمل على نقد ذاتها، وتطوير مفاهيمها، وتجديد مشروعها، وحاملها، وآليات عملها. وهذا ما يساهم حزبنا في القيام به.
أما بخصوص الجزء المتعلق بثوابت الهوية في السؤال، فإني أرى من الطبيعي، في ظروف العدوان على وطننا، أن يتقدم العنصر الوطني في الهوية السورية على غيره من العناصر، بما أنه هو العنصر المهدد مباشرة. لكن من غير الطبيعي افتعال التناقض بين انتمائنا الوطني وانتمائنا القومي، وتحميل العروبة مسؤولية العدوان على سورية، بسبب دور الأنظمة الرجعية العربية فيه، والتذرع بذلك للانفصام عن العروبة. لا بد من التمييز بين العروبة والشعوب العربية، وبين الأنظمة العربية التي ساهمت في العدوان على سورية. ولنتذكر كيف ميز الرفيق الأمين القطري للحزب، في خطاب القسم، تمييزاً تاماً بين “الشعب الفلسطيني المقاوم الذي علينا الوقوف إلى جانبه، وبين بعض ناكري الجميل منه، وإلا سنكون، بشكل واع أو غير واع، نخدم الأهداف الإسرائيلية التي تسعى إلى تمزيقنا أكثر”.
إن العلاقة بين سورية والعروبة هي علاقة غير قابلة للانفصام، فالعروبة كما أوضح الرفيق الأمين القطري للحزب أيضاً “ليست فكرة ابتدعها البعث في المجتمع، بل إن البعث أتى كنتيجة طبيعية لوجود هذا المجتمع المتشرب لكل عناصر القومية العربية”.
- ثبت أن تحقيق مشروع بحجم المشروع القومي العربي، مهمة أصعب بكثير من أن يتصدى لها حزب واحد، مهما كان حجم نضاله، كحزب البعث.. فما الحل، وما رأيكم بالأطروحة التي ترى أن حصر المهمة بالحزب، وحتى بالقوميين، على اختلاف اتجاهاتهم، فقط، كان من الأسباب الجوهرية التي أعاقت تحقيقها، وأن المطلوب حامل أوسع يشمل الجميع؟!..
لا شك أن تحقيق المشروع القومي العربي يحتاج جهداً عربياً جماعياً كبيراً. هذا أمر بديهي، لأن المشروع يخص – بالتعريف – الأمة جمعاء، ولأن الطريق إليه ليست مفروشة بالورود، بل هي طريق نضال شاق وطويل. لكن تحميل الحزب والقوميين عموماً مسؤولية التعثر في تحقيقه لأنهم احتكروا هذه المهمة، أمر أبعد ما يكون عن الحقيقة والمنطق، لأن حامل المشروع القومي لا يمكن، بالضرورة، أن يضم إلا المؤمنين به، وبالوحدة العربية ركيزته الأساسية. والمشكلة هي أن بعض القوى السياسية العربية من اليمين واليسار، تقف ضد هذا المشروع، وتعادي هدف الوحدة العربية. ومن هنا كان لا بد لحملته وأنصاره، أن يعرّفوا أنفسهم كقوميين، في مواجهة أعداء القومية، وليس لاحتكار القومية ومشروعها السياسي.
وإذا كان من مسؤولية يتحملها القوميون، فهي تلك المتعلقة بتقصيرهم في توحيد الحامل العربي للمشروع. أما بالنسبة لحزب البعث، فمن المعروف أنه كان من أكثر الأحزاب القومية إيماناً بالعمل السياسي المشترك من أجل تحقيق أهدافه. أكد ذلك على الصعيد الوطني، والجبهة الوطنية التقدمية شاهد حي حتى الآن، وحاول تحقيقه على الصعيد القومي، لكنه اصطدم، دائماً، بمعارضة الآخرين، وحتى تآمرهم، أو عدم جديتهم في أحسن الأحوال.
لنتذكر أن الحزب قد حل نفسه من أجل الوحدة السورية المصرية. ولنتذكر أيضاً أنه كان طرفاً في كل المشاريع الوحدوية العربية التي بقيت حبراً على ورق للأسف. كل ذلك يدل على أنه متحرر من كل الهواجس الحزبية أو الإيديولوجية أو السلطوية الضيقة، التي غالباً ما كانت تقيّد القوى والحركات والأحزاب السياسية العربية، وتعطل لقاءاتها أو تفشلها. كما يدل على إيمانه العميق بضرورة تشكيل الحامل السياسي العربي العريض للمشروع القومي، واستعداده القوي والدائم للعمل من أجله.
- هل من كلمة أخيرة تودون قولها في هذه المناسبة؟
أقول إننا سنحرص في الحزب كل الحرص على ألا تكون هذه المناسبة حدثاً احتفالياً روتينياً، بل محطة للمراجعة والتقييم والنقد والتطوير. فالظروف الاستثنائية التي يمر بها وطننا وأمتنا، تقتضي منا أداء استثنائياً يرقى إلى أعلى درجات المسؤولية الوطنية والقومية، ويرفض أي نوع من أنواع التقصير. وكلي ثقة أن هذه المناسبة ستدفعنا نحو مزيد من النضال والتضحية في سبيل انتصار الوطن على الإرهاب التكفيري، ومن وراءه، من أعداء دوليين وإقليميين. هذا الانتصار الذي سيعبّد للأمة الطريق إلى تحقيق أهدافها القومية النهضوية في المستقبل.
صحيفة البعث | البعث ميديا