line1مساحة حرة

من يواجه تمدّد الإرهاب ؟

يخطىء من يظن أن تمدّد الإرهاب الناجز اليوم هو تمدد وانتشار أفقي على مستوى المكان، مادّي يطال البشر والحجر والشجر، يدمّر فقط المزارع والحقول والثروات الماديّة، والمؤسسات الوطنية والبنى التحتية، المشافي والمدارس والمعامل.
فهذا النوع من الإرهاب تقليدي له مظاهر ومحطات عديدة في تاريخ الشعوب وصراعاتها وتحديّاتها الداخلية والخارجية عبر مراحل التطور المدني. والحقيقة هذه مشكلة، لكن مقدور عليها، فلطالما هُزمت في تاريخنا حركات الشطّار واللصوص والزعّار والعيّارين، وغزوات المغول والتتار.. وهكذا سيكون اليوم مصير وحوش العصر أمام الأفق الحضاري العريق لشعب سورية – لذلك دفعوا إليها بعديدالأجانب -.
إن الإرهاب الذي نشهده اليوم في منطقتنا، والذي تواجهه بلادنا تحديداً، هو من نوع مختلف، وإن كانت المظاهر التخريبية المذكورة أعلاه متحققة بوضوح مؤلم فيه.
لكن المظهر الجديد والمخفيّ، هو الهدف غير المعلن من قوى التحالف الصهيو-أطلسي الرجعي العربي التي قادت تحالفات ظاهرية لمحاربة الإرهاب كما تدَّعي في أفغانستان والسودان والعراق… نتج عنها  تشجيع الإرهاب والتكفير الجوّال وتمدده في هذه البلدان،  وفي جوارها، لا بل في العالم أجمع، وهذا ليس بخاف على هذه القوى التي تعقد في الوقت نفسه تحالفاً غير مباشر مع التيارات الجهاديّة التكفيريّة. فقد نجم عن كل تحالف تجلٍّ سيىء جداً وخبيث للإسلام السياسي الذي صار فيه الإسلام التاريخي الحضاري “المحمدي” عدوّاً واحداً وحيداً مستهدفاً بعد سقوط الثنائية القطبية، وأوروبا الشرقية والشيوعية.
فالإرهاب الجديد الذي تمدّه بعوامل الدعم والانتشار قوى التحالف المذكور هو الإرهاب المعنوي الذي ينغرس في الضمائر والعقول على المستوى العمودي منطلقاً من أحقاد التاريخ وأخطائه وظلامياته إلى المستقبل الذي تنشده الصهيونية والأطلسية والوهابية ضد العروبة والإسلام.
هذا الإرهاب الجديد هو الذي يبدأ من الماديات ظاهرياً، وهدفه الأهم الانهيار المعنوي للثقافات، ولفكرة التقدم، وللمشروع الوطني والقومي التحرري، عن طريق تشويه الوعي، والهوية الوطنية والعربية والإسلامية الحضارية، وكذلك الانتماء الأصيل إلى شعب واعد، وأمة حيّة، ودولة وطنية أدت مؤسساتها السياسية والاجتماعية والعسكرية دوراً لا ينكر بعد التحرر من الاستعمار العثماني والغربي، وها هي اليوم تدفع ضريبة باهظة الأثمان بهدف عودتها إلى “العصر الحجري” كما عبّر ابن سعود.
العصر المرتجى أن يقال فيه: وداعاً للدولة الوطنية، وداعاً للمشروع القومي العربي. عصر تنحدر فيه الهوية والانتماء من أنا عربي، إلى أنا مصري أو سوري، أو عراقي…. إلى أنا مسلم، أنا طائفة، مذهب، عرق…، عصر تتدرج فيه الهوية الوطنية العربية بل تتدحرج من هذا الوصف إلى هوية منفتحة دون حدود على الأعراق والأديان والطوائف والمذاهب و”الثقافات” المريضة، والانتماءات الضيّقة. عصر الأحزاب الدينية بل الطائفية، لا السياسية الوطنية التقدمية.
ألا يعرف الغربيون والرجعيون العرب والترك كيف يستثمرون اليوم في الإرهاب، كما طال استثمارهم في البترودولار؟ ألا يعرفون نتائج تسهيلهم المريب لمرور الإرهابيين الجوّالين إلى هذه المنطقة، بعدما وفّروا لهم الحافز المتميّز والتشجيع المادي للهجرة إلى “مقتلهم”؟ ثم يبادرون إلى الكذب الصريح في التعبير عن القلق من هجرة “الجهاديين” وعودتهم إلى أوطانهم “إرهابيين”.
بالأمس أعلن أوباما على هامش قمة الدول الصناعية السبع “عدم وجود استراتيجية متكاملة لحرب داعش”. فمن يجهل تمدد الإرهاب بنوعَيه في زمن إدارته؟! وبالأمس أيضاً أعلنت السلطات البريطانية أن إرهابيي داعش نفّذوا عمليات احتيال بمستوى عالٍ استغلوا فيها نظام الرعاية الاجتماعية. فهل احتضان بريطانيا للإخوان المسلمين وللجهادية جديد طارىء؟! وكذلك أمر قطر والسعودية وتركيا.
هؤلاء جميعاً يدركون النتائج الكارثية لسياسة “إبقاء الغليان البطيء إلى ما لا نهاية”.. حيث الحلول السياسية غائبة. وبالأحرى مغيّبة، بفعل النفاق، والازدواجية، وفوق هذا الخطط الخفيّة التي لا تُدرك عادة إلا بعد دفع ضريبة مؤلمة وكبيرة.
فنتائج الإرهاب المادي ليس التغلب عليها من المصاعب الكبرى، ويمكن تجاوزها بزمن ليس طويلاً. ومن الواضح أن محور المقاومة قادر وعن قريب على مواجهة تمدد هذا النوع، بل هزيمته و… إعادة البناء والإعمار بفعل الصمود والمقاومة والممانعة.
هذا الفعل الذي يؤسس له شعبنا الصامد، وجيشنا العقائدي الباسل خلف القائد الأسد، يبدو أنه المؤهل وحيداً لهزيمة الإرهاب المعنوي الذي يهدد الجغرافيا والتاريخ والمستقبل.
وهنا يتأكد أهمية دور الحداثة، واليسار، والتقدّم، والعلمانية. فلا نجاح إلا بأصالة هذا الدور، وبحضوره الوطيد. وهذا سؤال كبير أمام حزب البعث، وأمام التيارات الوطنية والقومية التقدمية الواقفة أمام تحدٍّ مصيري وتاريخي كبير. ولاشك في إيجابية الرهان على سورية في مواجهة تمدّد الإرهاب، وها هي خسارات، بل هزائم خصومها تتوالى، وإلى المزيد.
د. عبد اللطيف عمران