مساحة حرة

التهويل بـ «الأفغنة» سلاح المفلسين!

كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن «الأفغنة» واستحضار «التخويف» بها و«تحول سورية إلى أفغانستان ثانية» بعد القرار الروسي بالدعم الجوي للجيش العربي السوري في محاربته للإرهاب، وأطلقت أقلام رعاة الإرهاب العنان لخيالها باختلاق القصص والروايات بشأن «تكرار السيناريو الأفغاني» وعما «سيحل» في روسيا بعد هذا القرار، وعلى هذا النحو ما إن بدأت الضربات الجوية الروسية على قواعد الإرهابيين حتى فتحت الأبواق الأمريكية والغربية وتوابعها في الخليج والسعودية وشراذم توابع هذه التوابع أبواقها في حملة مركّزة أساسها التخويف «بالأفغنة» والتهديد بها وبمعنى «توعد» روسيا بالانزلاق إلى ما تسميه هذه الأبواق «مستنقعاً سورياً» شبيهاً بالمستنقع الأفغاني.

لابد من القول: إن روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين لم تترك وسيلة من الوسائل إلا استخدمتها في سبيل التعاون والتنسيق مع واشنطن للقضاء على الإرهاب وتنظيم «داعش» على وجه الخصوص في سورية والعراق، وقد أحسن الجانب الروسي الظن بأن إدارة أوباما ربما تكون جادة في هذه المهمة لذلك نصح مراراً «التحالف الدولي» بقيادة الولايات المتحدة بالتعاون والتنسيق مع القوة الأهم والفاعلة على الأرض وعدم استبعادها ألا وهي الجيش العربي السوري، ولكن التعنت الأمريكي وصل ذروته في قمة نيويورك التي جمعت الرئيسين فلاديمير بوتين وباراك أوباما حيث كان واضحاً اختلاف موقف كل منهما بخصوص سورية والعديد من المسائل الأخرى.

كما اختلف الرئيسان في رؤيتهما لأسباب ظهور «داعش» وفيما تحدث أوباما عن هذا التنظيم كما لو أنه ظهر فجأة من لا شيء، شدّد بوتين على أن تنظيم «داعش» لم يسقط من السماء بل جرت رعايته كأداة ضد الأنظمة غير المرغوب بها، كما تعارضت وجهات النظر الروسية والأمريكية بشأن أوكرانيا.

من هنا رأت روسيا أنها لا يمكن أن تقف مكتوفة اليدين أمام عدم جدية الغرب في «محاربة الإرهاب»، فألقت ببعض ثقلها في الميدان بعد أن فشل «التحالف» الذي قادته واشنطن بزعم الحرب على الإرهاب في تحقيق أي نتيجة تذكر بعد عام على إنشائه، إذ يقول السفير الروسي في الرياض «لو رجعنا إلى تسلسل الأحداث، سنجد أن عدد عناصر «داعش» في بداية انطلاقه كان بحدود ألف تقريباً، وهو بعد ضربات الائتلاف يتكون من 60 دولة، وهو ائتلاف أكبر من الائتلاف الذي تم تشكيله ضد هتلر، وبعد كل هذه الضربات الجوية لم يدمر شيئاً ثم كيف أصبح «داعش» أكبر عدداً وأكثر قدرة إلى حد أن عدد أتباعه وصل إلى 50 ألفاً، وفي رواية أخرى 100 ألف، نحن لا نستطيع أن نتصور كيف يمكن أن تضرب بهذه القوة العظيمة، وتكون النتيجة على هذا النحو؟!».

لقد حصل تهرب من قبل واشنطن في الموضوع السوري وهو تهرب مخزٍ أخذ أخيراً شكل فضيحة للدبلوماسية الأمريكية عندما لم تستطع إقناع أحد بأسباب رفضها دعوة الخارجية الروسية لإرسال وفد أمريكي إلى موسكو، وهذا لم يمنع روسيا من أخْذ زمام المبادرة والاستمرار في العمل.

ومسلسل التهرب الأمريكي من التعاون مع روسيا مستمر فقد تهرب «الحلف الغربي» من مسؤولياته التي أخذها على عاتقه «في ضرب داعش» على حد زعمه مدة عام فكان أن بادر الجانب الروسي إلى العمل.

واستمرت واشنطن بالتهرب على طول الخط من إعطاء معلومات عمن تسميهم «معارضين معتدلين» تتهم روسيا «بضربهم» وتكتفي فقط بالاتهامات، فقد تهرب المتحدث باسم الخارجية الأميركية جون كيري من ذكر ولو عدد قليل من أدوات واشنطن التي تسميهم «فصائل المعارضة المعتدلة».

كما تواصل التهرب من التنسيق العسكري والمعلوماتي مع روسيا ضد الإرهاب، وفي هذا الإطار تقول وكالة «سبوتنيك» الروسية تحصل روسيا على معلومات عن المجموعات الإرهابية في سورية من مصادر عديدة ولهذا السبب لا يمكن أن يتأثر أداء القوات الجوية الروسية التي توجه الضربات لمواقع الإرهابيين في الأراضي السورية.

يشير خبراء روس إلى أن تمنّع الغرب عن التعاون جعل روسيا تبادر ولا تقف مكتوفة الأيدي بانتظارهم وستنجح من دونهم، ويعتبرون أن الدور الروسي في سورية يشير إلى نهاية عصر الهيمنة الأميركية، وهكذا شكلت الجدية الروسية العسكرية علامة مميزة بل حملت المفاجآت على نحو إطلاق صواريخ من بحر قزوين مثلاً، وهذا لا شك يثير امتعاضاً أميركياً وغربياً بشكل عام فربما لم يتوقع هؤلاء هذه القوة والفعالية، بل إن تقدم الجيش السوري استفاد من هذه القدرات الجوية والصاروخية المبنية على معلومات دقيقة، يثير الغرب الآن في وجه روسيا عدة انتقادات مؤسسة على الشخصنة و تكرار المقولات الفارغة: لكن هذا المنطق الأجوف يسقط أمام حقيقة ان الجيش العربي السوري يقوم بحرب مدة خمس سنوات ضد الإرهاب، والحرب على الإرهاب تتضمن حُكماً دعم الجيش السوري ومواكبة عملياته، هذا هو الرد المنطقي الأول، والرد الآخر هو عن مدى جدّية الغرب وأميركا أصلاً في ضرب «داعش» أو العمل على احتوائه فقط.

ولأن واشنطن وبعض زعماء الغرب ما زالوا يراوغون وغير جادين ولا صادقين في «محاربة الإرهاب» أو حتى استئصال تنظيم «داعش» راحوا، عندما دخلت روسيا بثقلها كطرف فاعل في محاربة الإرهاب، يضعون العراقيل ويمارسون الضغوط، فمن العراقيل ليس رفض التنسيق حتى الآن فقط، وإنما إسقاط الطائرات الأمريكية أكثر من خمسين طناً من الذخيرة للإرهابيين بعد بدء العمليات الجوية الروسية، أيضاً ومن الضغوط شن حرب تشويش واسعة النطاق في محاولة لئيمة «لثني» موسكو عن إكمال مهمتها فأظهروا أسلحتهم التضليلية القذرة، ولكن ونتيجة انكشاف أكاذيبهم بسرعة وفي أعقاب افتضاح اللعبة الأمريكية وإفلاسها في «مكافحة الإرهاب» بعد الضربات الروسية الساحقة يجري التهويل والتبشير الكاذب «بوقوع الروس مرة ثانية في المستنقع الأفغاني».

لا وجه للمقاربة أو للمقارنة عملياً وواقعاً بين الأمس واليوم فيما يتعلق «بالأفغنة» فلا سورية الدولة اليوم التي صمدت وحارب جيشها حوالي خمس سنوات متواصلة بلا توقف أكثر من ثمانين دولة هي أفغانستان في الأمس ولا روسيا الاتحادية الصاعدة اليوم بقوة لإنهاء عصر أحادية القطب هي الاتحاد السوفييتي المتجه آنذاك نحو التفكك والضعف في الأمس، وليست الظروف والأجواء العالمية التي ضغطت لإخراج القوات السوفييتية من أفغانستان هي نفسها اليوم، بل على العكس فالاصطفافات الدولية من منظمة «شنغهاي» إلى دول «البريكس» ومجموعة دول «الالبا» إلى إيران القوة الإقليمية الكبرى، تؤكد أنه واهم من يظن أن عقارب الساعة يمكن أن تعود إلى الوراء وواهم أكثر من يعتقد أن القيادة الروسية برئاسة الرئيس بوتين لم تضع في حساباتها أسوأ الاحتمالات وهي لن تتراجع ولن تأبه لكل أنواع التشويش والتضليل ويبقى التهويل «بالأفغنة» مجرد سلاح للمفلسين الذين أفقدتهم المفاجأة الروسية صوابهم.

د. تركي صقر