مساحة حرة

الموصل وحماقات «السلطان» الجديدة

ليس جديداً القول إن جار السوء التركي كان يطمع دوماً في أراضي الغير وخاصة أراضي الجوار وليس جديداً أيضا أنه كان يعمل باستمرار على قضم أراض من سورية والعراق

وضمها كلما سنحت له الفرصة تحركه في هذا روح عدوانية متجذرة ونوازع سلجوقية وعثمانية قديمة وظهر ذلك جلياً عندما حرك مجموعات التنظيم الإرهابي المسمى «داعش» لتسيطر على مدينة الرقة وأراض غيرها في شمال سورية وشرقها وعندما دفعها لتجتاح مدينة الموصل وعدداً من المحافظات العراقية قبل أكثر من سنة.

لقد كان هذا التمدد المفاجئ لـ«داعش» يخفي وراءه نيات أردوغانية مبيتة رغم أن حكومة أنقرة حاولت جاهدة أن تنفي علاقتها المباشرة ودورها الأساس في هذه العملية لكن الوقائع الميدانية للاجتياح كذبتها حيث كانت تشير بوضوح إلى أن الحكومة التركية هي التي كانت وراء التمدد السريع لمجموعات «داعش» الإرهابية وسيطرتها على أكثر من ثلث مساحة الأراضي العراقية وقبلها الأراضي السورية، ومعروف جيداً أنه لولا الدعم اللوجستي والتسهيلات التركية والموافقة الأمريكية الضمنية لما استطاع التنظيم الوصول إلى الرقة وتدمر وإلى أكبر المدن العراقية ولما تمكن من الاستيلاء على أضخم ترسانة من أسلحة الجيش العراقي المتطورة والمشتراة حديثا من الولايات المتحدة الأمريكية والموجود معظمها في مدينة الموصل ومحيطها.

غير أنه لم يمض وقت طويل حتى افتضح أمر العلاقة الوطيدة بين تنظيم «داعش» وحكومة أردوغان حين انكشفت مسرحية احتجاز الدبلوماسيين الأتراك العاملين في القنصلية التركية في الموصل من قبل التنظيم حيث تم الإفراج عنهم بسهولة ويسر ومن دون أي طلبات أو شروط على غير ما اعتاده إرهابيو «داعش» في مثل هذه الحالات من قطع للرؤوس أو طلب الفديات الكبيرة أو طرح الشروط التعجيزية والأمثلة لا تعد ولا تحصى لهذا السلوك «الداعشي» بدءاً من ذبح صحفيين ودبلوماسيين من الوريد إلى الوريد من جنسيات مختلفة إلى حرق طيارين وشوي آخرين والتمثيل بهم فكيف يستثني الإرهابيون «الدواعش» الكادر الدبلوماسي التركي في مدينة الموصل، لو لم تكن هناك علاقات خاصة وحميمة جداً مع حاكم أنقرة الذي يعدونه بمنزلة «الأب» الشرعي لهم.

تشترك تركيا وأميركا في عدّ الإرهاب «جيشهما» السري الذي تستخدمانه ضد دول معينة، ثم تدّعيان أنهما «تواجهانه وتحاربانه»، لكن «حربهما عليه» قائمة فقط في الإعلام، وتسخّران الحرب ضدّه كجسر تعبران عليه للدخول إلى أيّ ميدان أو العودة إلى أي مكان تريان مصالحهما في الوجود فيه واليوم تتكشف أكثر فأكثر حجم العلاقة بين الإرهاب «الداعشي» ومشغله نظام أردوغان بعد أن أقدم على ارتكاب حماقة جديدة بإرساله وحدات من جيشه إلى محيط الموصل بين خطوط «داعش» ومناطق سيطرته وهي مدججة بالدبابات والأسلحة الثقيلة في وضح النهار ومن دون موافقة الحكومة المركزية العراقية في خطوة عدوانية احتلالية تؤكد إفلاس نظام أردوغان وهروبه إلى الأمام بالانتقال إلى مرحلة جديدة في استخدام مجموعات «داعش» لاحتلال أراضي الجوار بعد أن استخدمها في سرقة النفط العراقي والسوري ونهب المعامل والمصانع والآثار في البلدين.

ولا جدال في أن واشنطن ليست بعيدة عما يجري بل هي من رسم ملامح هذه المرحلة الجديدة ولا داعي للتأكيد أن دخول الجيش التركي إلى الموصل ما كان ليتم من دون موافقة واشنطن فالإدارة الأميركية على ما يبدو عدلت استراتيجيتها وقررت الدخول إلى الميدان تدريجياً، باسم خبراء ومدربين، لأنها فشلت في خطط عدوانها المتتالية منذ العام 2011 ضد سورية وعجزت عن «إسقاط» الدولة أو إركاعها بوساطة الإرهابيين وباتت تخشى فعلياً أن تتمكن الدولة السورية من الإجهاز على الإرهاب وبذلك تجهض أحلام أميركا كلها، لذلك قررت اعتماد استراتيجية حرب الاستنزاف تلك وظنت أنها بهذه الاستراتيجية ومع وجود «التحالف» المخادع المدّعي الحرب على الإرهاب، تستطيع أن تخدّر العراق وتجعله يركن إليها في محاربة «داعش» وحمايته منها، في الوقت الذي تمكّن هي «داعش» من التمدّد في العراق والتمكّن في سورية وتنفيذ الأجندة الأمريكية المرسومة.

وحين تقف قوات عسكرية تركية على مشارف مدينة الموصل وترفض حكومة أنقرة سحبها وتلمح إلى بقائها وزيادتها فهذا يعني أن هناك استراتيجية جديدة فيها عودة إلى الخطط الأمريكية القديمة المتضمنة تقسيم العراق وغض النظر عن دخول العسكر التركي واحتلال أجزاء منه وضمها إلى الأراضي التركية تحقيقاً لحلم قديم طالما راود الطغمة الحاكمة في تركيا التي مازالت تعد الموصل جزءاً من الجمهورية التركية وترصد لها حساباً في الموازنات السنوية وتثبتها في الخرائط الرسمية وتدرسها في المدارس على أنها «أرض تركية مسلوبة يجب استعادتها» وقبل الدخول العسكري التركي نشرت صحيفة تركية مقالاً ذكرت فيه أن الموصل لتركيا ولن تتخلى عنها ونشرت مع المقال خريطة تظهر فيها الموصل «ضمن الأراضي التركية» ومنذ الأيام الأولى للغزو الأمريكي للعراق عام 2003 طالب وزير الخارجية التركي آنذاك «بحصة تركيا» من نفط الموصل وكركوك، وعندما طرح الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر تقسيم العراق إلى ثلاث دول أثارت أنقرة «ضم الموصل وكركوك لأراضيها».

إن دخول القوات العسكرية التركية إلى محافظة نينوى العراقية وتمركزها بالقرب من الموصل كرأس جسر لقوات أخرى يحمل في طياته أبعاداً خطيرة أبرزها:

– رسم خرائط جديدة للمنطقة تتجاوز «سايكس بيكو» وتتماهى مع خطوط التمدد الإرهابي والدخول في مرحلة التقسيم والتفتيت الفعلي كحصيلة للأعمال التي قامت بها العصابات الإرهابية خلال السنوات الماضية.

– البدء بالتدخل البري التركي الصريح والأمريكي المبطن إلى الأراضي العراقية ليس لمحاربة «داعش» وإنما لمساندته قبل أن ينهار واستثمار ما أنجزته المجموعات الإرهابية من توسع لتغيير موازين القوى قبل أن تتحول كلياً لمصلحة الجيشين العراقي والسوري كما ظهر في الآونة الأخيرة.

– التدخل العلني المباشر في ميدان القتال بقوات عسكرية برية مدعومة من أميركا، ومن أجل ذلك يجري الحديث عن إنشاء «قوات تحالف دولي من عناصر عربية وإسلامية» وبقيادة وتدريب وتنظيم أميركيين، تعمل بمساندة من القوات الجوية «للتحالف» الأميركي، قوات تشكل تحت عنوان محاربة «داعش» وتكون مهمتها الحقيقية على عكس ذلك تماماً.

وبالنسبة للحلول والتسويات وعقد المؤتمرات هنا وهناك والتظاهر الأمريكي بدعم نتائج الاجتماعات التي جرت في فيينا أو جنيف وحشد ما تطلق عليه الإدارة الأمريكية «المعارضة المعتدلة» للتفاوض مع الحكومة السورية فإنه لا يتعدى حتى الآن سوى تضييع الوقت بانتظار موجة جديدة من التصعيد في دعم المجموعات الإرهابية وتزويدها بأحدث أنواع الأسلحة النوعية أملا «بقلب ميزان القوى» على الأرض من جديد.. صحيح أن أميركا تدعي السير بالحل السياسي والتوقف عن العمل العسكري لكن الصحيح أيضاً أن الموقف الحقيقي الأمريكي لم يتغير في تحقيق أقصى المكاسب من وراء الاستثمار في الإرهاب إلى أبعد الحدود ولذلك تظهر الرغبة في التسويات والحلول السياسية لكن شرط أن تنتزع على طاولة التفاوض ما عجزت عن نيله هي وأدواتها الإرهابية في الميدان، فإن لم تستطع فإنها ستعطل الحل السياسي ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً لكن زخم الإنجازات التي تحققها سورية وحلفاؤها في الميدان والسياسة هو أقوى من أن يوقفه مسلسل الخدع والمناورات والتلاعب الأميركي الذي بات مكشوفاً للجميع.

د. تركي صقر